الأب جون جبرائيل
إذ بلغ من العمر أرذله ووهنت قوى جسده، جلس الأسقف وحده في قاعته الأسقفية المهيبة، محاطًا بصور قديسين قبيحة لا تعرف أدنى معاني الفن، والظلال الممتدة منها زادت أضواء الشموع ترنّحًا. بدا كأن المكان نفسه يخشى من الهمسات التي قد تنبعث من بين الجدران حتى تتهاوى كعمره الذي انسلّ من بين أصابعه بعد أن ظنّ أنّه خالد.  

تنهّد الأسقف، وبيده كأسٌ من العصير الصناعي. كان هذا المساء مختلفًا، لم يكن هناك جمهور يصفّق لكلماته، ولا طغاة يسايرهم. فقط هو وأفكاره الثقيلة التي بدأت تشق طريقها إلى قلبه، تلك الأفكار التي لطالما أخفاها خلف الأقنعة والخطابات الرنانة.  

فجأة، انبثق نورٌ خافت من زاوية القاعة. رفع الأسقف عينيه ببطء، ليجد رجلاً يرتدي ثوبًا بسيطًا، وجهه يشعّ بهدوء لا يُوصف.  
 يسوع:  (بصوت هادئ) أيمكنني الجلوس؟  

 الأسقف:  (بذهول، ثم بغطرسة محبّبة يغلّفها نظرة فكاهته المعهودة وصوته الذي يخرج من ثقبي منخريه) من أنت؟ وكيف دخلت؟  
 يسوع:  (يبتسم) أعرف أنّك تعرفني.  

(تجمّد الأسقف للحظة، ثم وضع كأسه على الطاولة بعنف، متحاشيًا النظر إليه مباشرة).  

 الأسقف:  (بسخريته المعهودة) يسوع؟ هذا أمر مثير للسخرية. تأتي لتقابلني أنا؟ ألا يفترض أن تنشغل بأولئك الذين يتضرّعون إليك في كنائسي؟  
 يسوع:  (بهدوء) جئت إليك لأنك تحتاجني أكثر مما يحتاجني أولئك البسطاء.  

 الأسقف:  (يضع يديه المرتجفتين على الطاولة) أنا؟ أنا من يقود الكنيسة ويحمي الإيمان! أنت لا تفهم العالم الآن. القوة وحدها هي التي تبقي الكنيسة قائمة، والسياسة هي لغتها.  

 يسوع:  (ينظر إليه بعينين مشعّتين) وهل الإيمان يحتاج إلى حماية بالقوة؟ أم أنّك تحمي نفسك؟  
كنتَ تكرز بي أم بذاتك ونرجسيتك؟  

(صمت الأسقف، وغرس جسده في مقعده كمن يبحث عن درع من كلمات. لكن يسوع اقترب منه ببطء).  

 يسوع:  (بصوت مليء بالرحمة) لستُ هنا لأحكم عليك، بل لأحذر أتباعك من السموم التي بثثتها في عقولهم الساذجة وقلوبهم الخاوية المضطربة. لجأوا إلى الراعي، فلم يجدوا إلّا ذئبًا ينهش كل ما أمامه ليضخّم ذاته ويشبع شوقه للسيطرة والسلطة والشهرة. عندما خاطبتُ الجموع، لم أحتج إلى عرشٍ ولا إلى تهديدٍ. كنتُ بينهم بلا أقنعة. وأنت؟ أين قلبك من رسالتي؟  

 الأسقف:  (يلمس الطاولة ثانيةً كأنما يداه تبحث عن خلاص) كفى! أنت لا تفهم. لو كنتَ في مكاني، لرأيتَ أنّ التنازلات ضرورية. الجمهور لا يريد الحقيقة، بل يريد صورة مطمئنة، وأنا أمنحهم ذلك!  

 يسوع:  (بهدوء يزلزل المكان) ومنذ متى أصبح الكذب حماية للإيمان؟  
(ساد الصمت. الأسقف خفض عينيه، لكن عيني يسوع اخترقتا روحه المترنحة بين الغرور والندم وظلال الموت التي ظلّلت عينيه).  

 الأسقف:  (بصوت خافت) وماذا كنتَ ستفعل لو كنت مكاني؟  
 يسوع:  (بابتسامة حزينة) كنت سأبقى ... ألم تقرأ تعاليمي؟ لو عرفتني حقًّا لما سألتَ هذا السؤال.  

 الأسقف:  (يهمس) الحب؟ وما نفع الحب في وجه العالم الذي يمزّقه الطغاة؟  

 يسوع:  (بثقة) الطغاة يزولون، والحب يبقى. لكنك نسيتَ أنّك راعٍ، ولستَ طاغية.  

(ارتعش الأسقف، وكأن كلمات يسوع كسرت جدران قلبه. للحظة، رأى نفسه كما هو: رجلٌ ضائع، اختار القوة على الرسالة).  

 يسوع:  (يهمس) كل قصور غرورك ستتهاوى، وكل خداعك سينكشف أمام الشعب.  

ختفى النور تدريجيًا، تاركًا الأسقف وحده مع دموعه التي سالت لأول مرة منذ سنوات

في تلك الليلة، أدرك الأسقف أنّ التاج الذي يرتديه لم يكن يومًا درعًا للإيمان، بل قيدًا لروحه.