د.جوزيف سعد حليم
يتساءل البعض: هل نستطيع القول بأن " الله تجلى في المسيح"؟! 
وقبل أن نجيب على هذا التساؤل دعونا نطرح عدة أسئلة ونجيب عليها واحداً تلو الآخر حتى نصل بنعمة الله إلى إجابة كتابية شافية وكافية ووافية بحسب فكر الله المُعلن في كلمته المقدسة، وبحسب تعاليم الآباء القديسين. 
 
ما معني التجلي في اللغة اليونانية (لغة العهد الجديد)؟! وهل هناك فرق بين التجلي والظهور؟!
 
هل التجلي هو الإعلان أو هو مجرد كشف كما يرى البعض؟ وهل كلمة التجلي في اللغة اليونانية هي هي كلمة الإعلان كما قال نيافته؟! 
 
هل هناك فرق بين التجلي والإعلان والظهور؟! وإن كان فما هو هذا الفرق؟! 
 
ما هو التجسد لغوياً وكتابياً؟وهل التجسد يشمل الإعلان والظهور والتجلي؟! 
 
ولماذا نقول عن التجسد "سر التجسد" على الرغم من أنه حدث مُعلن؟! 
 
وهل هناك إمكانية وضرورة لهذا التجسد؟ وما هي أهدافهفي التدبيروكيفيته؟!
 
كيف تم الاتحاد بين الطبيعتين، وهل هناك ضرورة حتمية لذلك الاتحاد؟ 
 
وهل التجسد غيَّر الله أو أضاف للطبيعة الإلهية ما ليس فيها؟! 
 
وما الفرق بين التجلي وظهورات الله في العهد القديم مع مقارنة التجلي في العهد القديم والتجلي في العهد الجديد؟!
 
أولاً: معنى التجلي في اللغة اليونانية
التجلّي في اللغة اليونانية "μεταμόρφωσις” وتُنطق(ميتامورفوسيس(metamorphosis، التي تعني "تغير الشكل" أو "تحول الهيئة". وتُستخدم هذه الكلمة في العهد الجديد للإشارة إلى حدث التجلي الذي فيه أظهر وكشف الرب يسوع المسيح مجده الإلهي لبعض من تلاميذه على جبل التجلي. وتأتي في اللغة الإنجليزية(Transfiguration) بمعنى إظهار المجد الإلهي المختبئ في المسيح بشكل مرئي ومؤقت، وقد وردت كلمة (ميتامورفوسيس) 4 مرات في العهد الجديد (مرتين في الأناجيل بمعنى تجلي ومرتين في رسائل بولس الرسول بمعنى التحول أو التغير الروحي في حياة المؤمنين) ففي (مت 17 :2) جاءت بمعنى " تجلى أو تغيرت هيئته أمامهم" التي تُرجمت بالعربية "وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ"،وقد استخدمت نفس الكلمة مرة ثانية في(مر 9:2) حيث جاءت بنفس المعنى، وكذلكفي الترجمة الإنجليزية (NKJV):
 
“He was transfigured before them” بمعنى"تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ" 
وجاءت مرتين في رسائل ق. بولس الرسول بصورة مجازية للتعبير عن التحول أو التغير الروحي المستمر بعمل النعمة وجهاد المؤمن ليتوافق مع فكر الله (رو 12: 2)" تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ" هذا من ناحية،ومن ناحية أخرى لمشابهة صورة المسيح كما في (2 كو 3: 18)"نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا" أيالتغيير المستمر حتى نصل إلى أن نكون "مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ" (رو 8: 29)
 
فالكلمة اليونانية "μεταμόρφωσις" (ميتامورفوسيس)تحمل فكرة التحول أو ظهور شيء بشكل جديد، وهي لا تشير فقط إلى التغيير الخارجي، بل تشمل أيضًا التعبير عن طبيعة داخلية عميقة، بمعنى جوهر حقيقي، وليس فقط مجرد شكل أو مظهر خارجي.
 
لكن في (لو 9: 29) استخدم ق. لوقا البشير كلمة يونانية مختلفة حيث قال"τὸεἶδοςτοῦ προσώπου αὐτοῦἕτερον" بمعنى صار وجهه مختلفاً وتُرجمت في العربية " صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً" وفي الإنجليزية As He prayed, the appearance of His face was altered بمعني "وبينما كان يصلي، تغير (أو تبدل) مظهر وجهه" وهو نفس المعني في اللغة اليونانية رغم استخدام كلمة مختلفة، فهنا يركز ق. لوقا على التأثير الخارجي لحدث التجلي كتغير أو تحول الشكل الخارجي كنتيجة مرئية للتجلي، لكن القديسين متى ومرقس يركزان على الطبيعة الجوهرية للتحولالناتج عن التجلي أي التغيير العميق والداخلي في هيئة المسيح باستخدام كلمة (ميتامورفوسيس) التي تحمل معنى التحول الجذري أو العميق.
 
ففي حدث التجلي " تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ" (مت 17: 2) لم يكن التحول أو التغير مجرد ظاهرة جسدية، بل إعلاناً عن مجد الرب يسوع المسيح الإلهي الذي كان مستتراً تحت طبيعته البشرية، فالتجلي يعني الكشف عن طبيعة المسيح الإلهيةوإشارة إلى أن يسوع ابن الإنسان هوهو ابن الله، فلاهوته لم يفارق ناسوته، لذاففي حدث التجلي هذا أظهر وكشف كشفاً مؤقتاًطبيعته الإلهية من خلال طبيعته البشرية ليتضح لنا الطبيعة الواحدة لله الكلمة المتجسد.
 
وهنا قد يقول قائل إن هذا مجرد ظهور، لذا يجب أن نجيب عن السؤال: 
ثانياً: هل هناك فرق بين التجلي والظهور؟!
الفرق بين التجلي والظهور في المفهوم اللاهوتي واللغوي يكمن في المعاني الدقيقة لكل منهما وطريقة استخدامهما في كلمة الله.
فكلمة التجلي (μεταμόρφωσις ):ميتامورفوسيس
يشير معناها اللغوي إلى تحول في الهيئة أو الشكل مع بقاء الجوهر نفسه، وفيه يظهر جوهر الشخص أو الكيان بشكل أكثر وضوحاً وبهاءً.
وفي معناه اللاهوتيالكتابي يعني كشف المسيح عن مجد طبيعته الإلهية المختبئة تحت بشريته، فلقد أظهر مجده الذي يُخفيه حيث أضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور، فظهرت طبيعة المسيح الداخلية الإلهية بشكل مرئي ومؤقت أمام التلاميذ.
 
فالسمة الرئيسية للتجلي هي التحول إلى حالة أسمى وأبهى تُظهر البُعد الإلهي، فهو ليس إضافة جديدة لطبيعة المسيح، بل إظهار ما كان موجوداً بالفعل لبعض من التلاميذ. كما قال القديس كيرلس الكبير في تعليقه على (لو 9: 28- 36) "التجلي ليس تغييرًا في طبيعة المسيح، بل كشف لما كان مختفيًا عن أعين البشر."
 
أما الظهور"ἐπιφάνεια" وتُنطق(إبيفانيا)
 
في معناه اللغويفهو يشير إلى الكشف أو الإعلان عن شيء أو شخص كان غير مرئي أو غير معروف من قبل، فهو يركز على الوجود المرئي أكثر من التحول الداخلي أو إظهار الجوهر الحقيقي أو المخفي. 
 
وفي معناه اللاهوتيالكتابي فهو يُستخدم للإشارة إلى ظهور الله أو المسيح في العالمأو الملائكة، مثل:
ظهور الله في العهد القديم لموسى في العليقة المشتعلة (خر3 :2 - 6).
 
وظهور الرب يسوع المسيح وعندنا نوعين من هذا الظهور هما:
 1. أعياد "الظهور الإلهي" (Epiphany) وسُميت بهذا الاسم لأن فيها استعلان إما للثالوث مثل "عيد الغطاس" أو استعلان الطبيعة الإلهية لله الكلمة (اللاهوت) مثل "عيدعرس قانا الجليل" 
 
2. ظهوراتالرب يسوع المسيح بعد القيامة. 
فالسمة الرئيسية والأساسية لهذه الظهوراتهي الكشف عن شيء كان مخفياً أو غير منظور، دون تغيير في الهيئة.
 
لذلك فالفرق الجوهري بين التجلي والظهور هو أن 
التجلي: يتعلق بإظهار طبيعة أسمى أو مجد داخلي موجود بالفعل (مثل تجلي الرب يسوع المسيح على الجبل) فهو لم "يظهر" من العدم، بل كشف عن مجد طبيعته الإلهية.
 
أما الظهور: فهو يتعلق بالكشف أو الإعلان عن وجود شخص أو كيان كان غير مرئي أو غير مُعلن من قبل (مثل ظهور الله لموسى في العليقة المشتعلة أو ظهور المسيح لتلاميذه بعد القيامة)، فهذا إعلان لحضور كان غائباً أو غير منظور للحظة معينة.
وهنا نأتي للسؤال 
 
ثالثاً: هل التجلي هو الإعلان؟
لقد خلط البعض بينالأمرين التجلي والإعلان من ناحيتي اللغة والمعني اللاهوتي الكتابي، لذا سنقوم بتوضيح الفرق كما يلي: 
التجلي في اللغة اليونانيةكما سبق القول "μεταμόρφωσις” وتُنطق (ميتامورفوسيس)وهي مكونة من مقطعين هما:
 "μετα-" (ميتا) بمعنى "تغيير" أو "تحوّل"، و"μορφή" (مورفي) بمعنى "الشكل" أو "الهيئة".
 
لذا تعني تغيير الشكل أو الهيئة بطريقة تكشف عن طبيعة داخلية حقيقية، وقد استخدمت الكلمة لتُشير إلى حدث تجلي الرب يسوع المسيح في (متى 17: 2، مرقس 2:9) الذي فيه تغيرت هيئة الرب يسوع المسيح أمام التلاميذ ليظهر مجده الإلهي المخفي في طبيعته البشرية، ولا علاقة لهذه الكلمة بالآية التي ذكرها أحد أصحاب النيافة التي تقول "نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ»." (لو 2: 32)فعلى الرغم من أن التجلي هو إظهار مرئي ومؤقت للطبيعة الإلهية وليس مجرد كشف أو إعلان عن حقيقة كما قال نيافته أو كما اختلط الأمر على نيافته، فحتى في اللغة الإنجليزية تختلف كلمة التجلي عن كلمة الإعلان فالتجلي (Transfiguration) يعني إظهار المجد الإلهي المختبئ في المسيح بشكل مرئي ومؤقت، فهولم يكن مجرد إعلان عن حقيقة، بل كان اختباراً بصرياً ووجودياً للمجد الإلهي، وكان هدفه إظهار مجد الله وإعلان طبيعة المسيح الإلهية، أما كلمة الإعلان نفسها فهي كالآتي:
 
الإعلان في اللغة اليونانية"ἀποκάλυψις" وتُنطق (أبوكالبسيس)وهي عبارة عن مقطعين هما “ἀπο-" (أبو) بمعنى "من" أو "إزالة"، و"κάλυψις" (كاليبسيس) بمعنى "غطاء" أو "ستر" فهي تعني الكشف عن شيء كان مخفياً، أو إزالة الستار عن حقيقة، فالكلمة استُخدمت في عدة مواضع للإشارة إلى إعلان الله عن حقائق روحيةمثل: "فَأَعْلَنَهُ اللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ." (1 كو 2: 10) "إِعْلاَنُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (رؤ 1: 1) فالمعنى ينصب هنا على الإعلان الذي يُركز على الكشف التدريجي أو الكامل لحقيقة أو رسالة، ويمكن أن يكون روحياً أو فكرياً، وفي اللغة الإنجليزية الإعلان (Revelation) ويعني الكشف أو الإظهار أو الإبلاغ عن حقيقة أو رسالةوهي تُشير إلى إظهار الله ذاته للبشر من خلال أعماله، كلمته، أو وجوده، وقد يكون هذا لفظياً مثل النبوات أو عملياً مثل المعجزات أو تجسد الرب يسوع المسيح، فهدف الإعلان هوإيصال رسالة أو معلومة.
 
والعلاقة بين التجلي والإعلان هي أنه يمكن اعتبار التجلي إعلاناً من نوع خاصجداً يتضمن تغييراً مؤقتاً في الهيئة لإظهار حقيقة داخليةمثل ما حدث في التجلي على جبل تابور، حيث أعلن المسيح عن طبيعته الإلهية ومجده، ولكن بطريقة مرئية ومؤقتة. فيمكننا القول بأن حدث التجلي على الجبل كان إعلاناً للتلاميذ الثلاثة (بطرس، ويعقوب، ويوحنا) عن مجد المسيح الإلهي وإعداداً لهم لفهم صلبه وموته وقيامته، فالتجلي هو شكل من أشكال الإعلان، لكنه ليس مجرد إعلان لفظي أو رمزي، أما الإعلان "ἀποκάλυψις"(أبوكالبسيس) هو عملية كشف أو إظهار قد تكون لفظية، أو رمزية، أو روحية، دون أن تتطلب تغييراً في الهيئة، ففي اللغة اليونانية يركز التجلي على تغيير الهيئة لإظهار مجد داخلي، بينما الإعلان يركز على الكشف عن حقيقة كانت مخفية دون أن يتطلب ذلك تغييراً في الهيئة.
 
رابعاً: هل هناك فرق بين التجلي والإعلان والظهور؟!
في اللغة اليونانية هناك تمييز واضح وجلي بين التجلي "μεταμόρφωσις”(ميتامورفوسيس) والإعلان " ἀποκάλυψις"(أبوكالبسيس)والظهور "ἐπιφάνεια" (إبيفانيا) وكذلك في اللغة الإنجليزية، هناك أيضاً تمييز واضح بين التجلي (Transfiguration) والإعلان (Revelation)، والظهور (Manifestation)، وكل منهم يُستخدم في سياقات محددة مع معانٍ محددة ودقيقة.
 
فالتجلييشير إلى تغيير في الهيئة أو الشكل بطريقة تعكس طبيعة أسمى أو أكثر بهاءً، فهو يُظهر الجمال أو المجد المخفي في الكيان أو الشخص، وكلمة التجلي "μεταμόρφωσις” (ميتامورفوسيس) تُستخدم في العهد الجديد كما سبق القول لتُشيرإلى حدث تجلي المسيح على جبل تابور، حيث أظهر مجده الإلهي لتلاميذه، وخصائص هذا التجلي هي تغيير مرئي ومؤقت في الشكل أو الهيئة. 
 
أما الإعلان فيعني الكشف عن حقيقة مخفية، أو إظهار معلومات لم تكن معروفة من قبل، وهو يشير في العادة إلى الإبلاغ أو الإعلان عن شيء غير منظور أو مفهوم بطريقة واضحة، وتُستخدمكلمة الإعلان " ἀποκάλυψις" (أبوكالبسيس)في العهد الجديد للإشارة إلى وحي الله أو الكشف عن إرادته أو رسالته مثل سفر الرؤيا. وخصائص هذا الإعلان أنه يرتبط بالكشف الفكري أو الروحي الذي قد يكون لفظياً، أو رمزياً، أو داخلياً.
أما الظهور فهويعني إظهار أو ظهور شيء بوضوح يمكن رؤيته أو إدراكه بالحواس، فهو يتعلق بجعل شيء غير منظور أو غامض مرئياً وملموساً، وتُستخدم كلمة الظهور "ἐπιφάνεια" (إبيفانيا)للإشارة إلى ظهور الله أو حضوره بطرق ملموسة. فخصائص الظهور أنه يركز على الوجود المرئي أو الملموس، ولا يتطلب تغييراً في الشكل أو كشفاً داخلياً.
 
خامساً: التجسد 
"اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ" (عب 1: 1،2) 
التجسد في المفهوم اللغوي والكتابي يحمل معانٍ دقيقة مستمدة من كلمة الله المقدسة، لذلك إن كنا نُريد فهم التجسد بعمق فعلينا دراسته أولاً: من الناحية اللغوية (اليونانية) وثانياً: من الناحية الكتابية والفهم الآبائي. 
 
"التجسد" في إيماننا المسيحي هو سر عظيم يعني اتخاذ الكلمة (اللوجوس) جسداً بشرياً له جميع خصائص الطبيعة البشرية ما عدا الخطية،فالتجسد لا يعني أن الله تخلى عن طبيعته الإلهية أو تغير من كونه الله إلى كونه إنساناً، بل يعني أن الكلمة (الابن الأزلي) أخذ لنفسه طبيعة بشرية إضافية، مع بقائه إلهاً كاملاً.
 
1.التجسد في اللغة اليونانية:
يُستخدم مصطلح "σαρκωσις" وتُنطق (ساركوسيس)أو"ἐνσάρκωσις"وتُنطق (إنساركوسيس)حيث تتكون من مقطعين هما: 
ἐν(إن) وتعني "في" أو "اتخاذ" 
σάρξ  (ساركس) وتعني "الجسد" أو "اللحم".
 
بالتاليἐνσάρκωσις ( ساركوسيس) تعني "التجسد" أو "اتخاذ الجسد"
 
ومنها جاءت كلمة "ساركس " في القبطيكما نُصلي في القداس الباسيلي " أفتشي ساركس أووه" بمعنى " تجسد وتأنس " حيث " تجسد " أي أخذ جسداً منظوراً و"تأنس " أي أخذ طبيعة إنسانية كاملة بلا خطية كما نُصلي في القداس الغريغوري" وضعت ذاتك وأخذت شكل العبدوباركت طبيعتي فيك " وهذا تطبيق لما قاله الوحي المقدس ""لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ μορφὴν(حيث كلمة مورفي تعني الصورة الجوهرية)عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ." (في 2: 7) وفي اللغة الإنجليزية كلمة التجسد "Incarnation" وهي تعني في قاموس Cambridge :
 
 "the appearance of a God as a human" بمعنى ظهور الإله في هيئة إنسان.
 
2.المعنى الكتابي والفهم الآبائي:
التجسد يشير إلى أن الله، في شخص الكلمة (اللوغوس)، أخذ طبيعة بشرية كاملة بلا خطية، ويعتمد هذا المفهوم على نصوص كتابية كثيرة جداً نذكر منها:
"وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا" (يو 1: 14)
وفي اليوناني: "Καὶ ὁ λόγοςσὰρξἐγένετο καὶ ἐσκήνωσενἐνἡμῖν"
فكلمة"ἐγένετο" وتُنطق (إيجنتو) تعني "صار أو أخذ شكلاً" وهي تدل على حدث زمنييُشير إلى أن الكلمة الذي هو أزلي دخل في الزمن وأخذ طبيعة جديدة، فالكلمة Λόγος(اللوغوس)، الذي هو الله، تجسد وأخذ طبيعة بشرية حقيقية.
 
كلمة "Λόγος" (وتُنطق لوجوسأو لوغوس(تعني"الكلمة"، أو "المنطق"، أو "العقل الإلهي" وفي الفلسفة اليونانية تُشير كلمة "اللوغوس" إلى المبدأ الإلهي الذي يحكم الكون، بينما في اللاهوت اليهودي، يرتبط اللوغوسبـ"كلمة الله" الخالق والمُعلِن كما جاء في المزمور "بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ، وَبِنَسَمَةِ فِيهِ كُلُّ جُنُودِهَا." (مز 33: 6) ففي التجسد حدث اتحاد يُسمى في اللاهوت "الاتحاد الأقنومي"، بمعنى أن الطبيعتين متحدتان في شخص المسيحفي طبيعة واحدة، كما كتب وعلم المتنيحنيافة الأنبا بيشوي واصفاً هذا الاتحاد بأنه"اتحاد أقنومي واتحاد حقيقي واتحاد بحسب الطبيعة" لكن كل طبيعة احتفظت بخصائصها الكاملة دون أن تتحول كل منهما للأخرى، ودون اختلاط أو امتزاج أو تغيير بمعنى أن:
 
اللاهوت (أي الطبيعة الإلهية): بقي كما هو بكل صفاته الإلهية (غير محدود لا في الزمان ولا في المكان، "سرمدي" أي أزلي أبدي، كلي القدرة، كلي القداسة).
 
الناسوت (أي الطبيعة الإنسانية): حقيقي، محدود، ومخلوق وله كل خصائص الطبيعة البشرية أو الإنسانية(لكنه بلا خطية).
 
فالمسيح كان في تجسده إنساناً كاملاً مع كونه إلهاً كاملاً وبحسب تعبير الوحي الإلهي بفم ق. بولس الرسول "فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا." (كو 2
: 9)
وقد قال ق. كيرلس الكبير في تفسيره لإنجيل يوحنا (يو 1: 14) "عندما تجسد الكلمة، وحّد الطبيعتين (الإلهية والبشرية) في شخصه، حتى أن الجسد أصبح أداة الإعلان عن الله." فهو اتحاد دائم للطبيعتين في طبيعة واحدةوهذا أعظم إعلان للبشرية عن محبة الله. 
 
إن أعظم هدف لهذا التجسد ليس فقط إعلان أو إظهار محبة الله للإنسان، بل كما نُصلي في قانون الإيمان قائلين "نؤمن برب واحد يسوع المسيح ... هذا الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء تأنس" وبهذا نحن نقر ونؤكد أن تجسده له المجد لم يكن بسبب أنه كان محتاجاً هو إلى ذلك، لكن بدافع محبته الإلهية نحونا أراد أن يُخلصنا، فهذا هو هدف وسبب تجسده الرئيسي (المقال التالي سيكون بنعمة الله حول: ضرورة وإمكانية وأهداف التجسد حسب التدبير الإلهي) 
 
وكما قال ق. كيرلس الكبير في رسالته الفصحيةالثامنة لعام 420م " أن الكلمة، وهو الله بالطبيعة، صار إنساناً مثلنا لكي يُخلصنا، وأن الله الكلمة قد سكن في هيكل كان خاصاً به، فالجسد أُخذ من امرأة، وزود بنفس عاقلة" وقدأكد هذه الحقيقة القديس غريغوريوس العجائبي أسقف قيصرية حيث قال "إن كلمة الله صار إنساناً من أجل خلاصنا لننال صورة الإنسان السمائي" (من كتاب اعترافات الآباء، دير المحرق، المخطوطة رقم 60 لاهوت، الورقة 16) 
 
فالغرض الأول والهدف الأكبر للتجسد كما أوضحه نيافة الأنبا غريغوريوس المتنيح" الغرض الأول والهدف الأكبر من تجسد المسيح هو الفداء، فلولا الفداء لما كان التجسد"(موسوعة الأنبا غريغوريوس ج 7، ص 14، ص 110) وكل ذلك دافعه الأساسي هو محبة الله فكما قال الرب نفسه "لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ." (يو 3: 16) 
 
"فلقد أدرك الكلمة جيداً أنه لم يكن ممكناً أن يقضي على فساد البشرية بأي طريقة أخرى سوى الموت نيابة عن الجميع. ومن غير الممكن أن يموت الكلمة لأنه غير مائت بسبب أنه هو ابن الآب غير المائت. ولهذا اتخذ لنفسه جسداً قابلاً للموت حتى إنه عندما يتحد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الجميع، يصبح جديراً ليس فقط أن يموت نيابة عن الجميع، بل ويبقى في عدم فساد بسبب اتحاد الكلمة به" (القديس أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة، الفصل التاسع، الفقرة الأولى) 
 
وقد شرح أيضاً القديس يوحنا ذهبي الفم قائلاً "السبب في أن "الكلمة صار جسداً" أن السيد أخذ شكل العبد، فقد صار ابناً للإنسان، ذاك الذي هو ابن الله الخاص، لكي يجعل بني البشر يصيرون أولاداً لله، لأن العلي حينما يتحد بالأذلاء لا يُنقص ذلك إطلاقاً من مجده الخاص، بينما يرفع الآخرين من منتهي مذلتهم، وهذا هو ما حدث في المسيح فإنه بتنازله لم يُنقص إطلاقاً من طبيعته الخاصة، ولكنه رفعنا نحن الجالسين في الظلمة بمنتهى المذلة رفعنا إلى مجد لا يُنطق به" (العظة ال 11 في شرح إنجيل ق. يوحنا الحبيب) 
 
وكما جاء في (في 2: 7) "أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ" فالرب يسوع المسيح تنازل عن مجده الإلهي واتخذ لنفسه جسداً خاصاً في اتحاد عجيب بين الطبيعتين الإلهية والبشريةجعل العالم كله في اندهاشوتعجب، لذا تعجب واندهش القديس غريغوريوسالنزينزيفي شرحه لهذا الاتحاد العجيب فقال: "يا له من اتحاد من نوع جديد! يا له من التحام إعجازي، الكائن بذاته يشترك في الصيرورة (قد صار جسداً) غير المخلوق يجعل نفسه مخلوقاً، غير المُحوى يصير محوياً ... الذي يُغني الجميع يجعل نفسه فقيراً ... وما أعظم هذا السر الذي صنعه لأجلي!كنت شريكاً في صورته، ولم أحافظ على الصورة، والآن قد اشترك في جسدي، ليُجدد فيَّ هذه الصورة"(العظة 45 الفقرة 9)
 
فالتجسد هو سر عظيم قال عنه القديس بولس الرسول:"وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ" (1 تي 3: 16) وفي اليوناني:" ἐφανερώθη ἐν σαρκί " وتُنطق " إيفانيروثي إن ساركي" أي أن الله ظهر بشكل واضح في الطبيعة البشريةحيث كلمة "ἐφανερώθη" (إيفانيروثي) تُشير إلى أن الذي كان غير مرئي اختار بإرادته حسب التدبير أن يُظهر نفسه بطريقة مرئية وملموسة في شخص ربنا يسوع المسيح،ولكن لماذا نقول عن ذلك أنه سر؟! 
 
" لأن فيه غير الجسدي يتجسد، والكلمة يتجسم، غير المنظور يصير منظوراً، وغير المحسوس يصير ملموساً، غير الزمني يبتدئ، ابن الله يصير ابناً للإنسان" (ق.غريغوريوسالنزينزي، العظة 38 على الميلاد) وكما أوضح القديس باسيليوس الكبير " الله ظهر في الجسد، ليس فقط بفعله وعلى فترات متقطعة كما كان للأنبياء، ولكنه اقتنى البشرية مغروسة فيه ومتحدة به. فلقد جمع في نفسه البشرية كلها بواسطة جسده الذي كان مساوياً لأجسادنا ... فأُعلم إذن السر: من أجل ذلك جاء الله في الجسد، لكي يقتل الموت المتخفي في أعماقنا. 
 
فقد ملك الموت حتى مجيء المسيح (رو 5: 14) 
ولكن لما ظهرت نعمة الله المخلصة (تي 2: 11) 
وأشرق "شمس البر" (ملا 4: 2)
ابتلع الموت إلى غلبة (1كو 15: 54) إذ لم يحتمل التواجد أمام الحياة الحقيقية.
فيا لعمق صلاح الله ومحبته للبشر! 
 
لماذا يتباحث الناس في كيفية مجيء الله بين البشر، بينما كان الأجدر بهم أن يسجدوا أمام صلاحه؟! (ق. باسيليوس الكبير، عظة عن الميلاد) 
 
أخيراً وبحسب التدبير الإلهي العجيب يُعلن الوحي الإلهي على فم القديس بولس الرسول عن ولادة المسيح بالجسد البشري ما يُبرز ويُعلن مفهوم التجسد قائلاً:
 
"وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ،" (غل 4: 4)ليؤكد لنا أنه ليس مجرد ظهور لله الكلمة، بل إنه دخول حقيقي إلى التاريخ البشري من خلال الاتحاد الكامل بين الطبيعتين الإلهية والبشرية في شخص ربنا يسوع المسيح الذي هو الله الكلمة الظاهر في الجسد،فالجسد "σάρξ" وتُنطق (ساركس): يشير إلى الطبيعة البشرية الكاملة، بما في ذلك ضعفها (ما عدا الخطية).
 
" لأنه لم يقصد أن يتجسد أو أن يظهر فقط، وإلا لو أنه أراد مجرد الظهور لأمكنه أن يتمم ظهوره الإلهي بطريقة أخرى أسمى وأفضل.لكنه أخذ جسداً من جنسنا، وليس ذلك فحسب، بل أخذه من عذراء طاهرة نقية لم تعرف رجلاً، جسداً طاهراً وبدون زرع بشر. لأنه وهو الكائن الكلي القدرة وبارئ كل شيء، أعد الجسد في العذراء ليكون هيكلاً له وجعله جسده الخاص متخذاً إياه أداة ليسكن فيه ويُظهر ذاته به" (تجسد الكلمة، ق. أثناسيوس الرسولي، الفصل الثامن الفقرة الثالثة)
 
سادساً: هل التجسد يشمل الإعلان والظهور والتجلي؟! 
التجسد في المفهوم المسيحي هو حدث شامل وفريد من نوعه، ويحتوي على كل هذه العناصر "الإعلان والظهور والتجلي"، لكنه يختلف عن كل واحد منها من حيث الطبيعة والتطبيق. دعونا نحلل هذه العلاقة بصورة سريعة: 
 
1. سر التجسد كحدث شامل:
التجسد كما سبق القول يعني أن الله (الكلمة - اللوغوس) اتخذ طبيعة بشرية حقيقية بكل خواص الطبيعة البشرية ما عدا الخطية، وذلك لتتميم التدبير الإلهي (يو 1: 14).
إنه اتحاد بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في طبيعة واحدة في شخص ربنا يسوع المسيح دون اختلاط أو امتزاج أو تغيير في أي من الطبيعتين.
 
2. التجسد وعلاقته بالإعلان:
التجسد هو أعظم إعلان (Revelation)عن الله، فمن خلاله كشف الله عن ذاته للبشر بوضوح:
"اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ (عب 1: 1، 2) والرب يسوع نفسه قال: "من رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14:9).
 
لذلك يُعتبر التجسد مشتملاً على إعلان الله، وذلك لأن الله كشف من خلال التجسد عن صفاته (المحبة، الرحمة،العدل، القداسة، ...) بشكل ملموس من خلال حياة المسيح.
 
3. التجسد وعلاقته بالظهور:
التجسد يشمل الظهورManifestation أيضاً، لكنه ليس مجرد ظهوراًمؤقتاً، لكنه ظهور بمعنىأن الله غير المنظورصار منظوراً للبشرأي أن الله ظهرفي صورة بشرية ليُرى ويُسمع ويتفاعل مع البشر بشكل مباشر كما جاء في (غل4:4): "لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة" وأيضاً رسالة تيموثاوس الأولى "الله ظهر في الجسد" (1 تي 3: 16)
 
أما جهة الفرق بين التجسد والظهور، فالظهور قد يكون مؤقتًا (مثل ظهور الله في العليقة المشتعلة)، لكن التجسد هو حضور دائم أثناء حياة المسيح الأرضية.
 
4. التجسد وعلاقته بالتجلي:
التجسد قد لا يشمل التجليTransfiguration بشكل مباشر، لكنه يحتوي على إمكانيته، فأثناء التجسد، كان مجد الله مختفياً تحت طبيعة المسيح البشرية، لكن في حدث التجلي (متى 17:1-9)، ظهر المجد الإلهي للمسيح بشكل مرئي ومؤقت لتلاميذه، فالتجلي كشف عن المجد الذي كان مستترًا أثناء التجسد، لكنه جزء منه لأنه يظهر طبيعة المسيح الإلهية الحقيقية.
 
الخلاصة:
التجسد
يحتوي على عناصر من الإعلان والظهور ويمهد للتجلي، لكنه أوسع وأعمق منهم جميعاً، ويمكن توضيح ذلك كما يلي:
الإعلان: أي أن الله كشف ذاته بالكامل في التجسد.
 
الظهور:
أي أن الله ظهر للبشر في شكل بشري ملموس.
 
التجلي:
يعني كشف مؤقت عن مجد الله الذي كان موجوداً أثناء التجسد.
 
لكن التجسد هو أساس هذه المفاهيم، إذ هو يُظهر الله للبشر بطريقة لا مثيل لها في التاريخ.
 
وقد أوضح القديس أثناسيوس الرسولي سببه وهدفه كما يلي: "ولما كان من الواجب وفاء الدين المستحق على الجميع، إذ كان الجميع مستحقين الموت فلأجل هذا الغرض جاء المسيح بيننا، وبعدما قدم براهيناً كثيرة على ألوهيته بواسطة أعماله في الجسد، فإنه قدم ذبيحته عن الجميع، فأسلم هيكله للموت عوضاً عن الجميع، أولاً: لكي يبررهم ويحررهم من المعصية الأولى، ثانياً: لكي يثبت أنه أقوى من الموت، مُظهراً جسده الخاص أنه عديم الفساد وأنه باكورة لقيامة الجميع" (تجسد الكلمة، ق. أثناسيوس الرسولي، الفصل العشرون، الفقرة الثانية)
 
أخيراً يمكننا القول إنالله أُعلن عن نفسه وظهر في الطبيعة البشرية من خلال التجسد، بينما التجلي كان حدثاً خاصاً ظهر فيه المجد الإلهي المخفي خلف الجسد، والتجسد يُظهر تواضع الله باتخاذه الجسد، بينما التجلي يُظهر مجده الحقيقي الإلهي، وللحديث بقية