د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك
1) كان هنالك طفل نائم، ليس على سرير مِن عاج ولا على أريكة مكسوة بالقماش الفاخر، بل في مذود مكسي ومُبطِّن بقليل مِن التّبن (لو 8/2-20). وعيناه تشعُّ نورًا يخترق ظلمات النّفس، شعره الأصفر يضيء كأنّه ذهب لامع، فمه الصغير يبدو وكأنّه يتحرَّك ويتكلَّم، يداه ورجلاه ساكنتان دون حراكٍ. فأمام هذا الطفل المُضجَع في مذود، حبيب الكون برمّته، يمكننا أنْ نردّد كلمات نشيد الأنشاد، حيث تصف الحبيبة حبيبها على هذا النّحو: «حَبيبي أَبيَضُ أصهَب عَلَمٌ بَينَ أُلوف. رَأسُه ذَهَبٌ خالِصٌ وإِبْريز وخَصائِلُه كَسَعَفِ النَّخْل حالِكَةٌ كالغُراب. عَيناه كحمامَتينِ على أَنْهارِ المِياه تَغتَسِلانِ بِاللَّبَنِ الحليب وهُما جاثِمتانِ على الحَوض. خَدَّاه كَرَوضَةِ أَطْياب وزَهْراءِ رَياحين وشَفَتاه سوسَنٌ تَقطُرانِ مرًّا سائلاً. يَداهُ حَلْقَتانِ مِن ذَهَب مُرَصَّعَتَانَ بالزَّبَرجَد وبَطنُه كُتلَةَ عاج يغَشِّيه السَّفير. ساقاهُ عَموداُ رخام مَوضوعانَ على قاعِدَتَينَ أن إِبْريز وطَلعَتُه كلُبْنان هو مُخْتارٌ كالأَرْز. حَلْقُه كلُه عُذوبَة بل هو شَهِيّ بجُملَتِه. هذا حَبيبي وهَذا خَليلي يا بَناتِ أورَشَليم» (نش 5/10-16).

2) الأغنام تثغو، والجِمال تهدر، والأحصنة تصهل، وجميع أصناف الحيوانات تُصدر أصواتًا تناسب أنواعها... فماذا حدث يا ترى؟! ومِن بعيد بدأت تظهر ثُلة مِن الرجال يبدو على ملامحهم أنّهم جاؤوا يبحثون عن شيء ما أو شخص ما. إنّ منظرهم وملابسهم تدل على أنّهم مِن طبقة فقيرة. فها الملابس الممزّقة، والأحذية المتسخة المتقطِّعة، وهاك الشّعر الطويل المهلهل، وكلُّ هذا يكشف عن هويّتهم. فهؤلاء ليسوا إلَّا رعاة غنم، جَاؤوا حاملين الأغنام، وبسببهم ارتفعت أصوات الحيوانات في المذود.

ويا لدهشتهم حينما نظروا فوجدوا مريم العذراء ساكنة هادئة هناك، تبدو وكأنّها غارقة في تأمّل عميق (لو 2/16-19)! ووجهها كان يلمع كلمعان المعدن السّاطع عندما تُشرق عليه الشّمسُ بنورها، وصافيًّا كالماء الجاري في الأنهار، ومبتسمًا خاليًّا مِن أيِّ علامات حزن كأنّه سماء صافية لا يعكِّر صفاءها غيم ولا سحاب. وبجانب العذراء جلس العفيف يوسف النّجار (لو 2/16)، حارس الفادي، وقد ظهرت عليه علامات الغبطة والفرح... ولِمَ لا؟! وهو جالس أمام الطفل يسوع الإله المتجسِّد، وبجوار أطهر نساء العالمين!

لقد رأوا الطفل كما وصفه لهم ملاك الربّ، فهو قال لهم: «سَتَجِدونَ طِفلاً مُقَمَّطاً مُضجَعاً في مِذوَد» (لو 2/12)؛ وها هوذا كلامه يتحقَّق (لو 2/16)!وثَمَّة تساؤل لا بدّ منه: لماذا جاء الرّعاة مُسْرِعِينَ إلى مذود بيت لحم؟! ترى هل ليبتاعوا لهم غنمًا؟! أو ظنوا أنّ طفل المذود سيعطيهم مالًا ليغتنوا به؟! أو اعتقدوا أنّهم سيتفرَّجون على مشهدٍ رائعٍ لطفلٍ نائمٍ؟! أم لأنّهم أرادوا أنْ يختبروا صدق وعود الله؟! كلا، كلا، لم يأتوا الرّعاة للمذود مِن أجل هذا كلّه، فلم يأتوا ليبتاعوا أو يغتنوا أو يتفرَّجوا أو يختبروا! وإنّما ربّما جَاؤوا مُسْرِعِين لسببين: أوّلًا، تلبيةً لدعوة الملاك! وهي لم تكن دعوته هو فحسب، بل هي دعوة السّماء برمّتها (لو 2/13-15). وثانيًّا، لشعورهم العميق باحتياجهم إلى مخلِّصٍ! فكلام الملاك كان هكذا: «وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ» (لو 2/11).

3) ماذا يمثِّل لنا اليوم "مذودُ المِيلاد"؟
ربّما يكون المذود بمثابة دعوة ما...

إنّ الله يدعونا للخلاص وللحياة معه؛ ويدعونا أيضًا لدعوة خاصّة، كلٌّ على حدة، دعوة يستطيع الشّخص مِن خلالها أنْ يحيا معه ومع الآخرين، وأنْ يخدمه ويمجِّده في الآخرين ومعهم. فهنالك دعوة لتكوين أسرة مقدّسة صالحة على مثال "العائلة المقدّسة"، وهي الدعوة للحياة "العلمانيَّة" أو "الزوجيَّة". وهنالك أيضًا الدعوة للحياة "التّكريسيَّة" أو "الكهنوتيَّة"، وهي دعوة للحياة على مثال يسوع الخادم المتضع والكاهن الأعظم، وليس على مثاله فحسب، بل أنَّ وجود الشّخص المكرَّس عينه تتصوَّر فيه "صورة المسيح" الكاهن والرّاعي! وثَمَّة أيضًا الدعوة للحياة"التّعبديَّة" أو "الرّهبانيَّة"، وهي الحياة التي مِن خلالها يتمُّ التّسبيح للثالوث، وهي صورة للآخرويات، وحياة الاتّحاد الكامل بالله.

وربّما يكون المذود ذاته هو الدعوة...

فهوذا القدّيس فرنسيس الأسيزي يحيا فقيرًا على غرار طفل المغارة، وهاك أيضًا الأخ شارل دي فوكو يتبع حياة النّاصريّ الفقيرة، وهناك خوري آرس وأنطوان شفريه والأم تريزا، وهنالك آخرون عديدون مِن القدّيسين والقدّيسات، والشّباب والشّبات، الذين لا يزالوا يعيشون حياة المذود‍. فكم نحن بحاجة إلى مَن يعرف حياة المذود ليس بالأفواه والعظات والكلمات فحسب، بل بكلِّ الكيان أيضًا!

(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)