د. نيفين مسعد
لمدة إحدى وعشرين دقيقة ألقى رئيس الجمهورية اللبنانية المنتخب العماد چوزيف عون خطابه الرئاسى الأول أمام مجلس النواب.هذا الخطاب يمكن وصفه بأنه خطاب شديد التفصيل إذ لم يترك شاردة ولا واردة إلا تضمنها.

وهو خطاب سقفه عالٍ جدًا لأن التعهدات الكثيرة التى ألزم عون نفسه بها يصعب تصور إنجازها خلال ست سنوات.ثم إنه خطاب شديد الوضوح لا يحتمل اللبس ولا يترك مجالًا للتكهن بخصوص مواقف الرئيس اللبنانى الجديد من أبرز قضايا السياستين الداخلية والخارجية. كما أنه خطاب كُتب بعناية كبيرة وبلغة شديدة البلاغة تذكّرنى بمقدمة الدستور المصرى الحالى التى كتبها الشاعر الكبير سيد حجاب، وهنا أقتبس فقرة من مقدمة الخطاب صوّرت بدقة جوهر الشخصية اللبنانية كما نعرفها إذ جاء فيها ما يلى «نحب الإبداع كمتنفس أساسى للحياة ونتعلّق بأرضنا كمساحة أساسية للحرية.صفتنا الشجاعة، قوتنا التأقلم، نصنع الأحلام ونعيشها. مهما اختلفنا..عند الشدّة نحضن بعضنا البعض لأنه إذا انكسر أحدنا انكسرنا جميعًا».

وأخيرًا فإن الخطاب بدا وكأنه يتماشى مع الجو العام فى قاعة مجلس النواب، على الرغم من أن الذين صوتوا لعون كانوا 99 نائبًا من أصل 128 نائبًا. واتضح هذا الانسجام بين عون وبين القاعة فى عديد المرات التى قوطع فيها خطابه بالتصفيق الحاد، علمًا بأن أطول فترة دام فيها التصفيق كانت عند حديثه عن أنه سيعمل على تأكيد حق الدولة فى احتكار حمل السلاح، وأخذًا فى الاعتبار أن جلسة انتخاب عون لم تقتصر على النواب فقط بل شهدت حضورًا دبلوماسيًا لافتًا.

اختار الرئيس اللبنانى الجديد مدخلًا ذكيًا استهّل به التعهّدات التى قطعها على نفسه والتى بلغَت نحو 20 تعهدًا،وهذا المدخل هو المدخل القانوني. تعهّد عون أول ما تعهّد بالعمل مع الحكومة من أجل بلورة مشروع قانون جديد لاستقلال القضاء بشقّه العدلى والإدارى والمالى كما قال.وأرى أن هدف هذا الاختيار كان هو تحديد الإطار العام الذى سيعمل فيه عون طيلة فترة رئاسته.

وهكذا بدا طبيعيًا أن يتم تسكين جميع تعهّدات عون التالية فى داخل نفس هذا الإطار القانوني، من أول تعهّده بالطعن فى عدم دستورية أى قانون يخالف الدستور وردّ المراسيم والقوانين التى تخرج عليه، مرورًا بتعهّده بحوكمة النظام المصرفى وألا يكون عليه حاكم إلا القانون ولا أسرار فيه إلا السر المهني، وتعهّده باحترام حرية الإعلام وحرية الرأى والتعبير ضمن الأطر الدستورية والقانونية، وانتهاءً بتعهده بأن يمارس دوره كقائد أعلى للقوات المسلحة وكرئيس للمجلس الأعلى للدفاع فى تأكيد حق الدولة فى احتكار حمل السلاح.

وفى هذه النقطة الأخيرة استفاض عون كثيرًا فى تحديد مهام الجيش اللبنانى ، وعندما أتى للحديث عن الحروب فإنه ربط خوضها بأن يتّم ذلك وفق أحكام الدستور، والرسالة الواضحة التى يريد إرسالها هى أن الجيش لن يحارب خارج حدوده. كما أن مسألة حماية الحدود وتحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلى هما مسئولية الدولة اللبنانية،وكرّر عون مصطلح الدولة اللبنانية لتأكيد المعنى الواضح أصلًا. وإذا أردنا التعبير بشكلٍ آخر عن التدابير القانونية والدستورية التى احتلت مساحة كبيرة من خطاب عون وخطته أثناء فترة رئاسته،لقلنا إن الرئيس الجديد أراد تقديم نفسه من خلالها باعتباره قد أتى لإعلاء قيمة سيادة القانون ورَفض كل مظاهر الخروج عليها إداريًا وماليًا وبطبيعة الحال عسكريًا.

ومن لبنان كدولة تطبق القانون على كل مواطنيها وعلى كل المقيمين على أراضيها بما فى ذلك الفلسطينيين داخل مخيماتهم، إلى لبنان الدولة الطبيعية التى تحتكم إلى القانون فى علاقاتها الخارجية فتحترم القرارات الدولية واتفاق الهدنة مع إسرائيل ولا تتدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخري. لبنان الدولة التى لا تصدّر للخارج إلا أفضل ما لديها من صناعات ومنتجات، ومصطلح تصدير الذى استخدمه عون وارد فى هذا السياق بإسقاط سياسى يمكن فهمه بمعنى عدم تصدير الصراع أو بمعنى عدم تصدير النموذج الإيراني، وذلك على الرغم من أن كلمة إيران لم ترد فى جملة واحدة من الخطاب، بينما ورد الحديث عن شراكات إستراتيجية للبنان مع دول المشرق والمغرب والخليج،وعن الانفتاح على الشرق والغرب وفق سياسة الحياد الإيجابي.

إلى أى مدى يمكن أن ينجح جوزيف عون فى بناء دولة القانون فى لبنان؟ تقتضى الإجابة عن هذا السؤال النظر فى عدد من العناصر الأساسية، أحدها أن حوكمة نظام المحاصصة والعلاقات الطائفية فى لبنان مسألة من الصعوبة بمكان، فكل الطوائف تتحمس لتطبيق القانون طالما أن هذا التطبيق لا يمس مصالحها والامتيازات التى تتمتع بها، وبالتالى فإن القدرة على تدوير المناصب وضمان شفافية المعاملات المالية تظل قدرة نسبية لا مطلقة. والذين مهدوا الطريق أمام نجاح عون سيحرصون بالتأكيد على إنجاح تجربته لكن إلى الحد الذى لا يجعلهم يدفعون ثمنًا كبيرًا لهذا النجاح. ثم نأتى لحزب الله وسلاحه، فمن الواضح أن الحزب لو أراد تعطيل انتخاب عون فى الجولة الثانية لعطله بالتنسيق مع حركة أمل، ولو أراد أن يثير خلافًا حول مدى دستورية انتخاب رئيس الجمهورية من موظفى الفئة الأولى وهو مازال بعد فى منصبه لأصّر على تعديل الدستور دون اعتداد بالسوابق التاريخية، فالممارسات العملية لا تنسخ النصوص الدستورية. لكن الحزب لا فعل هذا ولا ذاك لأنه يستوعب جيدًا طبيعة المستجدات الإقليمية ويتكيف معها فى هذه المرحلة. وهناك فارق كبير بين تسليم السلاح وبين عدم استخدام السلاح،ولقد شهدَت الفترة التالية على اتفاق الهدنة استفزازات إسرائيلية للحزب لكنه التزم بضبط النفس.أما حتى متى يمكن أن يستمر هذا الوضع فإنه يتوقف على الجهد الذى تبذله القوى الدولية لوضع حد للخروقات الإسرائيلية وتمكين الرئيس الجديد من تنفيذ تعهّده بتفعيل دور الجيش والشروع فى إعادة الإعمار، فرغم كل الضربات التى تلقاها حزب الله فإنه قد يجد نفسه فى لحظة معينة مضطرًا للرد حتى لا يفقد حاضنته الشعبية.

هكذا فإن انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية يمثّل خطوة إيجابية جديرة بالاحتفاء بها، أما تقييم هذه الخطوة فإنه يحتاج إلى بعض الوقت قبل الحكم عليها حكمًا مقبولًا..
نقلا عن الأهرام