نسيم مجلى
مرت ثلاثة وأربعون عاما على وفاة رائد الشعر الحديث المبدع صلاح عبد الصبور الذى وافته المنية إثر أزمة قلبية حادة فى أغسطس 1981، وعند مرور الذكرى الخامسة والعشرين كتب الاستاذ سامح سامى محرر جريدة "وطنى" يعرب عن أسفه لأن مؤسسات الاعلام والثقافة لم تعط هذه الذكرى ما تستحق من اهتمام لكن المجلس الأعلى الذى كان يقوده الناقد الكبير جابر عصفور ماكان يفوته هذا الأمر فاستعدت لجنة الشعر لإقامة احتفالية بالاشتراك مع مكتبة  الاسكندرية لكن وفاة أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ أدت الى إلغاء الاحتفال وعودة الجميع للاشتراك في الجنازة الرسمية لنجيب محفوظ. وهكذا تلعب الصدف الغريبة دورها لإفساد فرصة هامة ليس فقط لإحياء ذكرى هذا الشاعر وإنما لتذكير الأجيال  فدفعته إلى هذه الأزمة التي قضت على حياته قبل أن يتجاوز الخمسين من عمره فخسرنا بهذا علما من أعلام الثقافة والفكر الانسانى.   

     إن صلاح عبد الصبور شاعر كبير فذ وناقد واسع الأفق تتميز نظرته بالعمق والشمول. قدم للمكتبة العربية خمسة دواوين وخمس مسرحيات شعرية، وعدداً كبيراً من كتب النقد والدراسات من أهمها كتاب " حياتي في الشعر " فهو إنسان أعطي نفسه لفنه واستطاع عن طريق موهبة أصيلة, وثقافة عميقة أن يحمل راية التجديد ويقود مسيرة الشعر الحديث في مصر، تلك المسيرة التى يقول عنها الدكتور لويس عوض:

     " وكان أخطر أبناء هذه المدرسة الجديدة في ظني صلاح عبد الصبور الذي لم ينتزع لواء الشعر من يد أحد, بل وجده ملقي في الأوحال , منذ أن سكت أبو شادي, والمهندس محمود علي طه وناجي وتلامذتهم عن كل قول مبين في أول الأربعينات. فرفع لواء الشعر العربي في مصر عالياً خفاقاً, ولا زال يحمل هذا اللواء ويتقدم به في طريق التجديد والتجريب والنضوج ، يتأكد هذا من خلال النظرة الفاحصة لدواوينه الخمسة بدءاً " بالناس في بلادي " و" أقول لكم " حتي " أحلام الفارس القديم " و" تأملات في زمن جريح " .

أما هذه المسرحيات الشعرية فهى" مأساة الحلاج, ليلى والمجنون, الأميرة تنتظر, مسافر ليل, ثم بعد أن يموت الملك. وقد توالى ظهور هذه المسرحيات على مدى عشر سنوات تقريباً ما بين 1964- 1973.

    وهى اضافة لاشك فى أهميتها بالنسبة لمسيرة المسرح الشعرى تساهم فى اقامة صرحه وفى ترسيخ تقاليده فى أدبنا العربى الحديث فقد أحيا فى "مأساة الحلاج" تقاليد التراجيديا الاغريقية,  وجرب فيما تلاها من أعمال أحدث  أساليب المسرح المعاصر وتطرق من خلالها جميعاً لمناقشة أخطر قضايا مصر المعاصرة.

    ولعلنى لا أكون مبالغاً إذا قلت ان صورة مصر تتراءى فى هذه المسرحيات كأوضح ما تكون الرؤيا حتى تكاد تتجسد أمامنا روحاً هائماً يبحث عن الحب والحرية والمخلص الذى يبشرها بتحقيق الآمال. وفى سعيها الدءوب تعانى وتحزن وتتألم ونحن معها كركاب سفينة تحاصرها الأمواج العاتية, نتلفت حولنا بحثاً عن طريق النجاة, نتدافع بالمناكب نضرب بعضنا بعضاً فى حماة الخوف والقلق حتى تدمى الأجساد والقلوب فنتألم ونحزن ونتعاطف وفى النهاية نفرح ونمتلئ بالرجاء.

    فمصر ليست هى هذه الرقعة المحدودة من الأرض وليست هى النيل والهرم ... بل مصر هى الروح الممتدة فى الزمان والمكان، هى التاريخ والحضارة التى أرست أول قانون أخلاقى للبشر, وبشرت العالم بالحب والعدل والحرية.

    وبهذا الحس المتحضر ينظر شاعرنا إلى الانسان عموماً وإلى الانسان المصرى على وجه الخصوص. فهو يسخر من التواكل والاستسلام, ويكره القسوة والظلم والاستغلال ويفزعه "عالم خلا من الوسامة" بل إن هذه المشاعر تتجسد بوضوح فى أشعاره المبكرة . إذ يقول فى ديوانه الأول:

            الناس فى بلادى جارحون كالصـــــــقور
            غناؤهم كرجفة الشتاء فى ذؤابة الــمطر
            وضحكهم يئز كاللهيب فى الـــــــــحطب
            خطاهم تريد أن تــسوخ فى الـــــــتراب
            ويقـتلون يسرقون, يشربون , يجشأون
            لكنهم بشر.
            وطيبون حين يملكون قبضــــــــتى نقود
            ومؤمنون بالقدر.

    وهى صورة لاذعة السخرية تبرز التناقض الذى يمسك بتلابيب هؤلاء الناس ويؤدى بهم إلى الإحباط المادى والروحى . والشاعر يبدو حين ينقدهم ويسخر بهم وكأنه يرثى لحالهم.

    وعلى هذا الأساس يمكن أن ننظر لمسرحياته الشعرية ففى "مأساة الحلاج" التى نشرت سنة 1964 وفازت بجائزة الدولة التشجيعية ثم عرضت على خشبة المسرح فى موسم 67/68، تستمد موضوعها من التراث العربى الاسلامى. فالحلاج علم من أعلام الصوفية فى القرن الثانى الهجرى. آمن بالعدل فخلع خرقة الصوفية, وراح يجاهد فى نشر دعوته بين الفقراء وأرباب الحرف فى بغداد، فغضب عليه السلطان وأمر بصلبه. إنها ولا شك مأساة المثقف ذى الضمير الحى الذى يؤمن بقيمة الكلمة ودورها فى تحريك الجماهير وحثها على طلب العدل حتى يتحقق. ومأساته تنبع من عجزه عن تحويل الكلمة إلى فعل نتيجة القهر الشديد التى تمارسه أجهزة السلطة فى بغداد. لهذا يصلب.. ويدفع حياته ثمناً لدعوته. وقتله على هذا النحو, يشكل ادانة قاسية لكل نظام تحتاج فى ظله دعوة الحق إلى شهداء.

    و إذا نظرنا للمسرحية في ظل الظروف الموضوعية لمصر فى تلك الفترة, نجد أنها كانت تطرق أخطر القضايا فى حينها. فقد كان النقاش محتداً آنذاك حول أزمة المثقفين وعلاقتهم بالثورة. وكانت مأساة الحلاج محاولة لتغيير منظور المشكلة أو فلسفتها حتى تزداد وضوحاً وشمولاً. وقد رأى الناس فى هذا العمل دعوة لحرية الضمير وحرية الاعتقاد وحرية الكلمة، فى وقت بدأت فيه مراكز القوى تحكم قبضتها على زمام الحكم وتحاول أن تخنق حرية الرأى فى ظل دعوة مركزية تروجها وسائل الاعلام تطالب الكتاب والفنانين بوحدة الفكر.. ووحدة العمل فى ظل التنظيم الواحد. ويقال إن المسئولين عن المسرح رفضوا هذه المسرحية فى عام 1965 خشية أن تفسر بأنها هجوم على سياسة المحاكمات التى كانت تجرى فى ذلك الوقت. وهذا يؤكد أن المسرحية لم تكن هروباً من أرض الواقع بل كانت مغامرة فى أرض مجهولة تعيد طرح مشكلة المثقفين على أساس الحرية المطلقة للإنسان. فليس من حق أى حاكم ولا من حق أى سلطة أن تفتش فى أعماق الفرد بحثاً عن معتقداته أو انتماءاته لكى تحاكمه عليها. ان هذا ارهاب بل اقصى أنواع الإرهاب مهما تستر بأقنعة الدين أو أقنعة السياسة.

    فالحلاج بطل عظيم يكتسب عظمته من انتمائه للحقيقة أولاً التى تكشفت له ثم من انتمائه ثانياً لأعرض الجماهير. فهو لا يرى قيمة للحقيقة التى يؤمن بها ما لم توضع فى خدمة الفقراء والكادحين من أرباب الحرف. ولهذا حمل أمانة الكلمة وراح يشرح لهم جوهر العقيدة الدينية بحيث تكون تأكيداً للعدالة بين الناس وليست وسيلة لستر ظلم الحكام وتدعيم سلطتهم, ونتيجة لهذا أمسكت به السلطة وصلبته, ليصبح مسيحاً آخر يفتدى الناس بدمه.

    هذا عن موضوع المسرحية, أما عن نسيجها الشعرى فلنترك الحديث عنه للدكتور / "شكرى عياد"إذ يقول  " ولشعر صلاح عبد الصبور طاقة درامية لا تنكر , طاقة على تصوير تجاور الأفكار المتناقضة والانفعالات المتناقضة, ظهرت بوضوح فى شعره الغنائى, ولكن المجال أتيح لها كاملاُ فى هذه المسرحية, فلم تظهر فى عدد من القطع الطويلة فحسب كخطبة الحلاج فى ساحة بغداد, التى عبرت عن مذهبه الصوفى الاشتراكى, وبيانه فى قاعة المحكمة, الذى وصف تجربته الصوفية الوجدانية, بل ظهرت أيضاً فى حوار كأرشق ما يكون الحوار المسرحى وأذكاه. تأمل هذا الحوار بين الحلاج وحارسه الذى يضربه بالسوط:

            الحارس: لم لا تصرخ؟
            الحلاج: هل يصرخ يا ولدى جسد ميت؟
            الحارس: اصرخ . اجعلنى اسكت عن ضربك.
            الحلاج: ستمل وتسكت يا ولدى
            الحارس: اصرخ لن اسكت حتى تصرخ.
            الحلاج: عفواً يا ولدى صوتى لا يسعفنى.
            الحارس: قلت اصرخ. أنت تعذبنى بهدوئك.
            الحلاج: فليغفر لى الله عذابك.
                أيخفف عنك صراخى ... قل لى
                ماذا تبغى أن اصرخ ... فأقول؟

    وهذا الحوار الرشيق يصور مشهداً تراجيكوميديا هو من المشاهد القليلة الممتازة فى مسرحنا المعاصر لا يضارعه سوى مشهد الجلاد والمحكوم عليه بالاعدام فى مسرحية " السلطان الحا ئر" لتوفيق الحكيم. والبراعة التى أبداها الشاعر صلاح عبد الصبور فى بناء هذا المشهد هى التى تطورت واكتملت فى مسرحيتى "الأميرة تنتظر" و" مسافر ليل" حيث أخضع طاقته الشعرية لتجريب احدث أساليب البناء المسرحى بما فيها تكنيك العبث"
    فى "ليلى والمجنون" يتابع صلاح عبد الصبور ميله فى التجريب. ويحاول من خلال اعادة تمثيل قصة الحب الرومانسى عن ليلى والمجنون أن يصور مأساة مجنون عصرى أو شاعر عصرى من المناضلين الثوريين الذى تستغرقه مأساة عجزه عن تحقيق حلمه فى الحب والحرية فيصورها شعراً فى رسالة كأروع ما يكون الشعر بعنوان طويل " يوميات نبى مهزوم يحمل قلماً ينتظر نبياً يحمل سيفاً"

    لكن طموح المسرحية لا يقف عند حد تصوير مأساة هذا الثقف العصرى الفرد كما فعلت "مأساة الحلاج" بل يتجاوزه إلى محاولة تصوير مأساة جيل كامل من المثقفين الثوريين الذين ضلوا طريق النضال الصحيح، فتمزقوا بين الواقع والحلم، بين مأسيهم الخاصة ومأساتهم العامة، التى تتمثل فى وطن محتل ومدينة منتهكة..

    فهى ليست فقط مأساة الشاعر سعيد المسجون بتهمة النظرالى المستقبل, بل أيضاً مأساة حسام الذى وقع فى قبضة البوليس فخارت قواه وسقط فى أول الطريق فأصبح عميلاً للسلطة يتجسس على رفاقه المناضلين. وهى كذلك مأساة حسان الإرهابى الذى افتقد الرؤية الحقيقية لمفهوم الثورة. وهى مأساة الضياع الذاتى المتمثل فى ليلى العصرية الباحثة عن الحب المخصب الذى يغرس فى جوفها النماء والحرية. ولكنها تنخدع بكلمات الحب فتسقط فى يد من لا يعرف الحب إلى قلبه سبيلا.

    وليلى هذه. كما يقول الاستاذ فى المسرحية, هى الروح الضائع بين الواقع والحلم أى المعادل الموضوعى للقاهرة المنتهكة لسلطة القصر الخائن والمستعمر الأجنبى ، قبل ثورة يوليو 1952 . وسقوط ليلى فى شباك الخائن حسام يقترن بسقوط القاهرة فى جوف الحريق الذى دبره القصر والمحتل لإسقاط حكومة الوفد والقضاء على المقاومة الشعبية فى مدن القنال.

    وهذه النهاية لها دلالة هامة بالنسبة لتلك الفترة من التاريخ المصرى. فهى تشير بوضوح إلى افلاس وسائل النضال أحادية الجان، وتطرح مسألة البحث عن بديل. وإن كانت المسرحية لا تقرر على وجه التحديد نوع هذا البديل إلا أنها تشير إليه فى حديث يجرى بين اثنين من هؤلاء الفرسان المحزونين حين يعلق زياد على بعض الكلمات التى قالها حسان الارهابى. فيقول زياد "ما تذكره ليس هو الثورة. الثورة أن تتحرك بالشعب " – وهذا ما يؤكده الجو العام للأحداث. فحين يدرك الجميع عجز الكلمات عن تحقيق العدل والحرية وعجز الارهاب عن تصفية الخونة والقضاء على الخيانة لا يبقى هناك بديل سوى الثورة بمفهومها الاجتماعى والانسانى. وفى رسالته إلى النبى القادم يدعو الشعب للاستعداد للثورة كمخرج لحالة الموت التى وصلوا جميعاً إليها.

            يا أهل مدينتا
            هذا قولى:
            انفجروا أو موتوا
            رعب أكبر من هذا سوف يجئ
            لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعالى جبل الصمت
            أو ببطون الغابات.

    وسعيد, الشاعر المصرى المجنون بليلاه, حين يكتب رسالته إلى النبى القادم من بعده يوصيه أن يحمل سيفاً, فهو يصور مأساة عجزه هو عن امتلاك أسباب القوة أو السيف رمز القوة ورمز الذكورة والاخصاب حتى يستطيع أن يمنح ليلى قوة النماء و التحرر. وهو فى حديثه عن القادم يرسم نموذجاً للثورى المطلوب القاد ر على أن يوحد بين الكلمة و الفعل وبين الغاية والوسيلة . وهذا النموذج لا يتأتى إلا إذا كان القادم نبياً حقاً يحمل سيفاً, وحتى يتحقق هذا النموذج فى انسان, سوف يتوالى على المسرح أنبياء كذبة يخدعون ليلى بمعسول الكلمات, لكنها لا تلبث أن تدرك عجزهم عن العطاء والحب.

    تأمل ما يقوله سعيد لليلى فى آخر المسرحية حين تزوره فى السجن بعد أن وقعت مدينته أسيرة فى يد الشركس والكهنة وبعد أن تجرعت هى مرارة الخديعة:

            يوما ما ستحبين سواه
            رجلا يعرف أن اسمك ليلى
            ويناديك باسمك
            أنا ... لا
            أنا وقت مفقود بين الوقتين
            أنا...
            أنا انتظر القادم.

    فهل تخفى معانى هذه الكلمات, أو هل خفيت معانيها عن أهل الفطنة والذكاء عند صدور المسرحية فى فترة التمزق والقلق التى اعقبت هزيمة يونيه 67 ؟ وقد يسأل سائل لماذا يعود بنا المؤلف خمسة عشر عاماً أو أكثر ليحدثنا عن نضال المثقفين قبل ثورة يوليو 1952 , ويذكرنا بحريق القاهرة الذى سبق قيامها بعدة شهور؟ هل كان ذلك محاولة للهروب من هموم الواقع وأحزانه الكثيفة أم أنه حيلة ذكية لرؤية هذا الواقع فى ضوء جديد؟ أى اعادة طرح لقضية الثورة والقيادة كما فعل فى "مأساة الحلاج" حين أعاد طرح قضية المثقفين والالتزام على أساس حرية الضمير. هذا كله جائز.

    وظنى أن ذلك لم يكن سوى محاولة لصياغة وبلورة أحاسيس شعبية عامة وعارمة فجرتها جسامة الهزيمة, وما كشفت عنه من خلل وانحراف فى أجهزة السلطة والقيادة و ما عرف بجرائم مراكز القوى مما دعى جمال عبد الناصر إلى التصريح فى إحدى خطبه "بأن البلد تحكمها عصابة". وفى ضوء هذا الواقع يمكن لنا أن نقرر أن حديث المسرحية عن الثورة والنبى المنتظر الذى يحمل سيفاً لم يكن تمجيداً لهذه الثورة ولقيادتها بقدر ما هو إعلان لخيبة أمل الشاعر فى هذه الثورة وفى قيادتها أيضاً.

    فحريق القاهرة هو المعادل الموضوعى للنكسة والاشارة إليه هى حيلة موفقة لوضعنا من جديد أمام حلم الثورة، ونموذج المخلص القادر على الحب والعطاء فيعيد لمصر اسمها ويلقى فى جوفها ببذور النماء والحرية (وكان اسم مصر وقتها الجمهورية العربية المتحدة ولم تكن متحدة مع أحد).

    فالمؤلف يضعنا طول الوقت على خط الزوال بين الحلم والواقع, ولهذا اختار قصة "مجنون ليلي" ليعيد تمثيلها ليكشف من خلال أسطورة الحب المثالي الخالد ، واقع الحب في زمان البغضاء . فحب قيس لليلي العامرية أعترضته تقاليد مجتمع متخلف يعتبر الحب عارا فجن قيس بحبه لليلي، وكذلك ظل حب ليلي لقيس مثلا يروي. أما ليلي العصرية فرغم قدرتها الفائقة على الحب والعطاء إلا أنها كثيرا ما تفقد وضوح الرؤيا، فتنخدع بكلامات الحب الكاذب التى يقدمها بعض الأدعياء، وفى كل مرة تدفع هى الثمن غاليا ثم تعود من جديد تبحث عن العاشق الحقيقى الذى يعرف أن اسمها ليلي . ويبدو أن انتظار ليلي سيطول بعض الوقت. لأن تميمة الانتظار- للخلاص أو المخلص – تشكل خطا رئيسيا فى مسرحيتيه التاليتين " الأميرة تنتظر " 1969 و "بعد أن يموت الملك " 1973.

    أما " مسافر ليل " فهى كوميديا  سوداء  تصور انتصار الشر وسيادة الطغيان سيادة مطلقة. وهى رؤية فاجعة للعصر والتاريخ، تجعلنا نتابع أحداث المسرحية وكأننا فى حلم مرعب أو كابوس رهيب.

    فأحداث المسرحية تجرى فى عربة قطار. وفى العربة لا يوجد إلا المسافر وعامل التذاكر والراوى الذى يرى كل شىء ويروى لنا. وأثناء سير القطار يشعر الراكب بالملل فيعبث بحبات مسبحته متمتما بأسماء بعض الطغاة ولا يكاد يذكر الاسكندر الأكبر حتى يأتى اليه عامل التذاكر بملابسه الصفراء التى تشيع الموت ويقول " من يصرخ باسمى " ويبرز للراكب المسكين عدة القتل كالخنجر والسوط وزجاجة السم. ويستولي الذعر على الركب فيتوسل اليه ألا يقتله. ويصل في توسلاته الي أبعد درجات الذلة والمسكنة. وهكذا يتحول عامل التذاكر الي طاغية يحكم على الراكب بالموت بتهمة أنه قد قتل الله وسرق بطاقته أي انتحل صفاته. ويطلب الي الراكب أن يكون كبش فداء لأن " الله قد تخلى عن هذا الجزء من الكون، لا يعطينا شيئا قط . لا ينظر فى هذه الناحية كما كان"
     والسبب أن شخصا ما قد قتل الله أى سرق بطاقته، وانتحل صفة الربوبية، ولأن البحث لم يتوصل الى المجرم الحقيقى فلابد من تقديم جان وأى جان حتي يهدأ الناس ويستتب النظام ومن أجل هذا الغرض لابد أن يقبل الراكب التضحية بحياته وأن يختار الطريقة التى يحب أن يموت بها. ولكن الراكب يحتج ويعلن أنه مظلوم لكن هذا كله لا يجديه شيئا اذ لا يلبث الطاغية أن يطعنه بخنجره طعنة نافذة، وقبل أن يلفظ الراكب أنفاسه الأخيرة يكشف عامل التذاكر عن الحقيقة. فهو الذى سرق بطاقة الله وانتحل صفاته وأصبح من حقه أن يحكم بالموت علي الآخرين.   

    أما الراوى الذى اكتفى طول الوقت بالفرجة والتعليق، فلم يفلت من وزر الجريمة.فقد أرغمه الطاغية على حملها كما حمل قابيل جثة أخيه هايبل. وهى لمحة ذكية تصدم المشاهد وتحذره: ان السكوت على الجرائم ليس دائما طريق النجاة.

    إن المسرحية تتناول موضوعا عاما وهو الإنسان والطغيان. وهو موضوع قديم وممتد فى الزمان والمكان وسواء كان الطاغية هو الإسكندر أو الحجاج بن يوسف أو أولمرت أو الشيخ حسن نصرالله فأسلوبهم فى سحق الإنسان واذلاله أسلوب واحد: هو القتل بالسم أو بالخنجر أو فى أتون الحروب، يقدمون البشر ذبائح أضحية لعبثهم وجنونهم أو تحقيقا لأطماعهم فى السلطة والسيطرة.

    ورغم هذه الدلالة العامة التى تكتسبها المسرحية الا أن الدلالة الخاصة واضحة وموجودة. فالمسرحية تشيرليس إلى الكون كله بل الى جزء منه فى هذه الناحية حين يقول عامل التذاكر " ان الله قد تخلي عن هذا الجزء من الكون. لا ينظر فى هذه الناحية " ولعل المزج بين الخاص والعام بهذه الدرجة من الإتقان هو ما يعطى هذه المسرحية الشعرية قيمتها الحقيقية بالنسبة لأعمال صلاح عبد الصبور وتطور أسلوبه الفنى. اذ وفق فى اخضاع الشعر لمتطلبات الحركة المسرحية حتى أصبحت الكلمة مساوية للفعل، والفعل مساو للكلمة فى جو تراجيكوميدى، يضحكنا ضحكا مريرا هو أقرب ما يكون الى البكاء، فيفتح عقولنا وقلوبنا على مأساة حياتنا الحقيقية. وهى أننا لم نتقدم قط فى مجال الأخلاق وكأنه يترجم ما يقوله اليوت " عشرون قرنا من الزمان أرجعتنا الى الوراء" وهى مأساتنا نحن قبل أن تكون مأساة الإنسانية  أن يسود الظلم والطغيان وأن  يسحق الإنسان أو يموت فداء للآلهة الأرضيين.

    ولعل جو الضحك المرير المفضى الى البكاء هو الذى يربط بين هذه الكوميديا وبين مأساة " الأميرة تنتظر " برباط مشترك. ففى كل ليلة تجتمع الوصيفات حول الأميرة فى كوخ مهجور يندبن ما كان ويمثلن عن طريق الأقنعة قصة الأميرة العاشقة والحبيب الخائن أو الوعد الكاذب. فقد مناها بالحب وبالطفل فتبعته الى هذا الوادى المجدب الموحش، بعد أن قتل وسرق خاتم الملك. لكنه هجرها وطالبها بالإنتظار:
            " خمسة عشر خريفا قد فارقنا قصر الورد
            ونزلنا هذا الوادي الجدب إلا من اأشجار السرو الممتد كتصاوير الرعب ".
    فى هذا المكان الكئيب الذى يحيط به شبح الموت؛ فأشجار السرو لا تنبت إلا حول القبور. ولمدة خمسة عشر عاما يبدأ التمثيل كل ليلة حين يحل الظلام. تشترك فيه الوصيفات والأميرة. ونعرف كيف استطاع كبير حرس القصر أن يقتل أباها ويسرق خاتمه ليحكم به الناس ثم جاء بها إلى هذا الوادى وتركها مع الوصيفات، إذ كن أيضاً يحلمن بالحب وبالنور. ويكون ختام هذه التمثيلية فى كل ليلة على صوت الأميرة وهى تقول "والآن أخرج حتى ابكى رجلى المقتول وأزف إليك مطهرة بدموعى: يا رجلى القاتل: اخرج:" ثم تنخرط فى البكاء ويشاركها الوصيفات فى هذا المأتم الوهمى الحزين بعد أن يخلعن الأقنعة.

    وبعد خمسة عشر خريفاً اكتمل زمان الحزن وعاد السمندل ، وهذا اسم الحبيب الخائن. عاد متشحاً بالكذب كما اعتاد. لكنها هذه المرة تنجح فى كشف حقيقة أغراضه قائلة: "اغفر لك كل خطاياك إلا أن تفسد لحظة صدق" ويفشل فى خداعها ويضطر للاعتراف:

            "أنا مقهور يتشقق ملكى من
            حولى كلحاء الشجرة
            انكرنى الحراس
            والقادة والجند"

    لقد جاء ليعود بها إلى القصر حتى يستقر له الأمر من جديد. ويبدأ يذكرها بما كان بينهما من حب، ويستعطفها أن تغفر له ما حدث منه. وتكاد ترق له إلا أن القرندل يتقدم بغتة من ركن الحجرة ويطعنه طعنة نجلأ فيقضى عليه. والقرندل هو يد القدر أو روح التاريخ جاء فى الوقت المناسب ليخلص الأميرة من سطوة الضلال والكذب. وتقف الأميرة برهة تبكى حبيبها المقتول ثم تدير ظهرها للجثة وقد أشرق وجهها بنور جديد. وحين تفيق من هذا الكابوس تأمر الوصيفات بالتأهب للرحيل أو العودة إلى القصر. فقد انتهى زمان الغربة والنفى وآن للأميرة أن تعود إلى قصرها، وقد استردت ذاتها المسلوبة، لكى تمارس دورها الجديد كملكة للبلاد
      "من الواجب أن اخرج فى الصبح إلى الميدان كى يستجلى اتباعى طلعتى النورانية بعد أن استمتعنا وتنزهنا وخلعنا عن أنفسنا عبء التدبير وهم التفكير وغدونا كالأطفال".
    وهنا يبدو لنا الأمر وكأن كل ما رأيناه كان حلماً. ولعله حلم حزين ينتهى نهاية وردية لا تدعونا إلى الإغراق فى التفاؤل لكنها تخفف عن نفوسنا الأحزان وتمسح من مآقينا الدموع لنتطلع مع الأميرة بعيون مفتوحة إلى المستقبل وفى ذهنى سؤال يتردد : هل يصبح انكشا ف الكذب معادلاً لتحقيق الوعد فى مسرحيته التالية "بعد أن يموت الملك".

    ففى هذه المسرحية الأخيرة، تعيش الملكة عشرين عاماً على أمل فى الحب وفى النماء أم أنه عود على بدء؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك, فكيف تفسر عودة الشاعر لتيمة الانتظار فى الوهم – لقد أحبها الملك وقدم لها المهر مملكة ، اغتصبها بالسيف ثم وعدها بالطفل الذى يملأ حياتها بالخصب والرواء . لكنه يعجز عن تحقيق هذا الوعد. وتنكشف هذه الحقيقة حين تأتى موسيقى الليل بعد هذا الزمن الطويل لتوقظ فى الملكة رغبة الإنجاب فتطلب إلى الملك أن يختار لها عشيقاً يمنحها طفلاً فيثور ويهدد بقتله. انه لا يسمح لأحد بذلك.

    وكما جاء القرندل فجأة مع الريح ليقتل السمندل ويخلص الأميرة من سطوة كذبه، يأتى طائر الموت فى الوقت المناسب، ليأخذ روح الملك كى تتحرر الملكة بموته. لكن ذلك لا يتم لها إلا بعد أن تتعرف على الحبيب الحقيقى فى ذلك الشاعر الذى يغنى بالمزمار ويصرع به الجلاد ويمنحها الأمل الحقيقى فى الحرية والانجاب. لينتهى عصر الجدب والعقم الذى جثم على الحياة والأحياء. فقد استطاع هذا الملك العملاق الذى اغتصب المملكة بحد السيف، أن يجرد الحاشية ورجال المملكة من القدرة على الرغبة والرفض، فكأنه قد سلبهم الحياة فأصبحوا ظلالاً أو دمى وعلى حد قوله "صور زائلة أما هو فجوهرها الأقدس"

    وهكذا سيطر الجدب على العقول والقرائح وانتشر الكذب والنفاق. وكانت المفارقة أن الحاشية لم تصدق أن يموت هذا الملك فأقاموا حول قبره أربعين يوماً ينتظرون عودته إلى الحياة مرة أخرى. وفى اثناء ذلك كانوا يحاولون ابقاء السيطرة على الملكة التى تمردت وانتفضت على هذا الوضع.

    نشرت هذه المسرحية سنة 1971 وعرضت بعد حرب اكتوبر مباشرة وهى تدين حكم الفرد الذى يحول الجميع إلى اتباع أو ظلالا بعد أن يشل ارادتهم ويسلبهم أرواحهم. وهى تقوم على تصور فكرى لعل صلاح عبد الصبور قد قرآه عند برتراندرسل يقول"ان السلطة المطلقة فساد مطلق" وجاءت المسرحية حافلة بالتفاؤل على غير عادة شاعرنا الكبير فى أعماله السابقة، وأكثر صراحة فى التعبير عن فكره، فطرح حلولاً ثلاثة وترك للجمهور اختيار الحل المناسب. وجاء عرض المسرحية بعد انتصار اكتوبر الذى أعاد لنا الثقة فى أنفسنا وملأنا بالأمل فى الحرية والديمقراطية. والمهم بالنسبة لهذه المسرحية أنها تثبت أن صلاح عبد الصبور كان سباقاً فى طرق قضايانا الهامة والانشغال بها.

    كان دائماً فى مقدمة الركب يعطى نبوءته ويقدم رؤياه. لم ينفصل أبداً عن شعبه. كان قلبه ينبض بحب مصر يعيش أحزانها ويعانى آلامها. وكانت هى صورة شعره هى ليلى المنتهكة فى "ليلى والمجنون" وهى "الأميرة المنتظرة فى الغربة والنفى خمسة عشر عاماً وهى الملكة فى المسرحية الأخيرة التى تنتظر الخلاص من الجدب والعقم والأسر. كذلك كانت أحزانها ومخاوفها هى نسيج الرعب فى "مسافر ليل".  

    إن تحليل هذه الأعمال بنزاهة وتجرد يمكن أن يكشف عما حققت هذه الأعمال من اسهامات فكرية وفنية للشعر والمسرح معاً. وهو أمر لا يكفيه مقال وليس هنا مجاله. ولكن يكفينى أن أقول إن صلاح عبد الصبور شاعر جاد، ظل يحمل موهبته الشعرية ويخوض بها تجارب التكنيك المسرحى المعاصر بحثاً عن شكل ملائم للتعبير عن همومنا الفكرية والاجتماعية والقومية. وهو بهذا يضع تصوراته الفكرية والفنية موضع الاختبار. وقد حقق فى هذا السبيل كثيرا من النجاح وقليلاً من الفشل. لكن النتيجة النهائية هى كسب كبير لقضية الشعر الجديد, ان يثبت صلاحيته وشرعيتة فى المسرح. وهى كسب كبير للمسرح ذاته أن ضم إلى كتابه شاعراً كبيراً يملك القدرة الشعرية والحث المسرحى المرهف المزود بثقافة عصرية وعميقة فى وقت واحد.