(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)
في هذه الأيّام الأولى من العام الميلاديّ الجديد (2025)، يُلاحَظ تزايد زَخْم الأحداث والأحاديث المتعلّقة بقضايا شتّى، سواء على الصّعيد العالميّ أو الصّعيد المحليّ (العربيّ والمصريّ). ولكن ما يسترعي انتباهي بشدةٍ هو "اقتراح" تدريس الدّين (الإسلاميّ والمسيحيّ، كلّ على حدّة) كمادة أساسيّة وإجباريّة، وإدخالها في مجموع الدّرجات النّهائيّة. وإزاء هذا "الاقتراح"، الذي لا أرجل ولا أجنحة له، تراودني بضعة تساؤلات وخواطر دينيّة-ثقافيّة، وهي التّالية التي أطرحها للنّقاش.

1) هل حقًّا طلبت "الكنيسةُ" من جهة، ومؤسّسةُ الأزهر من جهة أخرى، بتدريس الدّين (سواء المسيحيّ أو الإسلاميّ) في مراحل الثّانويّة العامّة أو "البكالوريا" (وهذا موضوع آخر!) كمادةٍ أساسيّة مُضافة للمجموع؟ ولماذا يطلبان هذا الطّلب غريب الأطوار في القرن الحادي والعشرين، والعام 2025م؟ هل عجزت المؤسّسات الدّينيّة في مصر –بشتّى الطّرق السّلميّة والمشروعة والتّربويّة والحواريّة– عن مواجهة ظاهرة الإلحاد (أيًّا كان تعريفه) ومَوْجَة التّحوّل الدّينيّ (التّنصير أو الأسلمة)؟ وهل هذا هو حِيلتهم الوحيدة للحفاظ والدّافع عن "الهويّة المصريّة" (تُرى ما هي على وجه التّحديد؟)، وتقليص أعداد التّاركين للأديان كافة أو المتحوّلين إلي أديان أخرى؟ وأيُّ إلهٍ هذا الذي يطالب بفرض دينه بالقوّة والسّلطة والقوانين والتّشريعات؟

2) وعلى نحو آخر، أقول لهم: أنتم تضرون –عن قصدٍ أو بلا قصدٍ– بفضاء الأديان وفضاء العلوم في آنٍ واحدٍ. فمن جهة، إنّكم تفرضون الدّين بالقوّة والسّلطة والقوانين، بينما الدّين في الأصل مغامرةٌ تنطلق من حرّيّة الإنسان المخلوق من لَدْن الله؛ ومن جهة أخرى، أنتم تدمّرون فضاء العِلْم ومستقبل الأجيال القادمة. إنّكم تؤثّرون سلبًا على العِلْم وعلى الأجيال المستقبليّة، إذ إنّكم تضعون الدّين –أيًّا كان– كمعيارٍ للعِلْم والعلماء، لأنّ مادة الدّين ستحدّد قدرًا كبيرًا من التّحصيل النّهائيّ للمجموع. وإن كنّا –كمصريّين مسيحيّين ومسلمين– لا ننكر دور الدّين أو ما يجب أن يكون عليه دور الدّين في الحياة بأسرها، ولكنّنا ينبغي لنا أن ندرك أنّ العِلْم بطبيعته هو "ملحد"، "ولا دينيّ"، ولا يستخرج نظريّاته على أُسُس دينيّة، ولا تُعْدُّ أُطْروحاته وَحْيًا وتنزيلًا إلهيَّيْن. أجل، إنّ الحاجة هي إلى علماء في جميع المجالات كثمرة للتّعليم الممتاز والمتميّز، وليس لعلماء في الدّين، فهؤلاء –مع الاحترام والتّقدير– لهم مؤسّساتهم العلميّة وكليّاتهم الخاصّة.

3) وما يثير الدّهشة، أو قل البكاء والضّحك في آنٍ واحدٍ، أنّهم ينتقدون –دائمًا وبوسائل عدّة– العصور الوسطى الأوربيّة المسيحيّة، لإدعائهم غير الدّقيق بأنّها مزجت الدّين المسيحيّ بنواحي الحياة كافة، ولكنّهم الآن، وفي مِصْرنا المعاصرة، يحاولون تقليد واستراجع ما ينتقدونه، بالمآسِي والسّيئات ذاتها التي ينتقدونها، بل وبشكل أبشع ومخيف، إذ إنّه في العصور الوسطى كان ثمّة تناغم بين العقل ومتطلّباته والإيمان ومتطلّباته.

4) وأخيرًا وليس آخرًا، أرى أنّ هذا "الاقتراح" سيؤدّي حتمًا إلى "تمييز دينيّ" واضح للغاية، أي للتّفرقة والظّلم وعدم الحياديّة باسم الدّين وانطلاقًا منه، وفي فضاء التّعليم عينه، الذي من المفترض أن يكون فضاء العدل والمساواة العِلميّة والمدنيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة. فوفقًا لهذا الاقتراح أو هذا التّوجّه، مَن يعرف دينه هو عَالِم، ومَن لا يعرفه ولا يريد أن يعرفه ليس بعَالِم، وإن كانت لديه كلّ الملكات والكفاءات والمؤهّلات العلميّة.

5) وكخلاصةٍ، أتساءل: هل يا تُرى مشكلتنا الحقيقيّة في مِصْر المعاصرة تكمن في عدم معرفة أصول وعقائد الدّين أم في عدم تطبيق السّلوكيّات الصّالحة الدّينيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة؟ فربّما من الأفضل اقتراح تدريس مادة موحَّدة وموحِّدة تدور برمّتها حول "الأخلاقيّات الإنسانيّة السّليمة وتاريخها وفلسفتها"، بدلًا من العبث بالدّين والعِلْم في آنٍ واحدٍ. وعلي كلّ حال، إنّه غَيْضٌ من فَيْض، ومجرّد رأْي ووِجْهة نظر!

(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)