أحمد خير الله
تكوين العقل هو عملية مستمرة ومعقدة تتأثر بعوامل متعددة، وتهدف إلى تطوير قدرات الفرد العقلية والمعرفية لتمكينه من العيش حياة كاملة وهادفة.

إن ما اوحى لي كتابة هذا المقال هو كتاب "تكوين العقل الحديث" لجون هرمان راندال، لأن العقل الحديث الذي تحدث عنه راندال هو العقل القديم في عصرنا الحالي، بينما نحن نمر بعملية تكون العقل الحديث
فهل هما عقلان مستقلان ومختلفان بشكل تام !

أم أن الإنسان في العصر الحديث هو امتداد لعقل الإنسان في الماضي عبر مراحل تكوينه؟
وما هي أوجه التشابه والاختلافات بين تكون العقل الحديث في كتاب راندال وعقلنا الحديث الحالي؟

كتاب "تكوين العقل الحديث" لجون هرمان راندال:
يركز الكتاب بشكل أساسي على تتبع تطور الفكر الغربي من العصور الوسطى وحتى عصر التنوير، مع تحليل التأثيرات المختلفة التي شكلت هذا التطور.
يستند بشكل كبير على المصادر الكلاسيكية في الفلسفة والتاريخ، ويقدم تحليلاً دقيقاً للأفكار والمعتقدات السائدة في تلك العصور.

يعطي الكتاب أهمية كبيرة لدور الفلسفة والدين في تشكيل العقل البشري.

كتاب راندال يقدم لنا إطاراً تاريخياً لفهم تطور الفكر البشري، ولكن هذا الإطار يحتاج إلى تحديث وتطوير في ضوء التغيرات الهائلة التي يشهدها عالمنا اليوم. تكوين العقل الحديث في عصرنا هو عملية ديناميكية ومتغيرة باستمرار، تتأثر بعوامل متعددة ومتشابكة.

تكوين العقل الحديث في عصرنا الحالي:
يتميز عصرنا بتنوع كبير في المصادر المعرفية، وتسارع هائل في وتيرة التغيير والتطور.
تلعب فيه التكنولوجيا دوراً محورياً في تشكيل العقل الحديث، حيث تؤثر على كيفية الحصول على المعلومات وتبادلها ومعالجتها.
بالإضافة إلى المعرفة النظرية، يركز التعليم الحديث على تطوير المهارات العملية مثل التفكير النقدي وحل المشكلات والعمل الجماعي.
فقد أصبح العالم أكثر تنوعاً ثقافياً، مما يؤثر على تكوين العقل ويجعله أكثر انفتاحاً على الأفكار المختلفة.

إذا هل العقل الحديث مستقل في تكوينه عن العصور الماضية؟

الإجابة باختصار هي: لا، العقل الحديث ليس مستقلًا تمامًا عن العصور الماضية.

لماذا؟
بسبب مجموعة من العناصر منها :
١- التراكم المعرفي: العقل الحديث هو نتاج تراكم معرفي طويل ممتد عبر العصور. الأفكار والمفاهيم التي نعتمد عليها اليوم هي نتاج لتفكير وتجارب الأجيال السابقة.
٢- تطور المفاهيم: المفاهيم والمعتقدات تتطور وتتغير مع مرور الزمن. الأفكار التي كانت سائدة في العصور الوسطى تطورت وتشكلت لتصل إلى ما هي عليه الآن.
٣- الاستفادة من الإرث: العلماء والفلاسفة المعاصرون يستفيدون من إرث العصور السابقة، ويبنون عليه أفكارهم ونظرياتهم.

ولكن، ما الذي يميز العقل الحديث؟
* التسارع التكنولوجي: أدت الثورة التكنولوجية إلى تغيير جذري في طريقة تفكيرنا وتفاعلنا مع العالم من حولنا.
* التنوع الثقافي: أصبح العالم أكثر تنوعًا ثقافيًا، مما أثر على تكوين العقل وجعله أكثر انفتاحًا على الأفكار المختلفة.
* التركيز على العلم والمنهج العلمي: أصبح العلم والمنهج العلمي هما الأساس لفهم العالم، مما أدى إلى تغييرات جوهرية في طريقة تفكيرنا.
باختصار، العقل الحديث هو نتاج تطور تاريخي طويل، ولكنه في نفس الوقت يشهد تغيرات جذرية بسبب العوامل التي ذكرناها سابقًا.
لذا، يمكننا القول إن العقل الحديث هو امتداد للعقل الذي كان موجودًا في العصور الماضية، ولكنه في نفس الوقت يتميز بخصائص جديدة ومميزة.
بالتالي فإن تتبع تكوين العقل الحديث لا يمكن أن ينفصل عن تتبع تكوين العقل في العصور الماضية الذي تناوله راندال، بسبب نقاط الاتفاق والاختلاف بينهما

١- النقاط المشتركة:
   * كلاهما يهتم بتتبع تطور الفكر البشري.
   * كلاهما يسعى لفهم العوامل التي تشكل العقل البشري.
   * كلاهما يؤكد على أهمية الفلسفة في فهم العالم.

٢- النقاط المختلفة:
   * التركيز الزمني: يركز راندال في كتابه على الماضي، بينما نركز في عصرنا على الحاضر والمستقبل.
   * مصادر المعرفة: اعتمد راندال على المصادر الكلاسيكية، بينما نعتمد في عصرنا على مصادر متنوعة ومتجددة.
   * أهداف التعليم: كان التعليم في عصر راندال يركز على الحفظ والتلقين، بينما يركز التعليم الحديث على الفهم والتطبيق.
   * العوامل المؤثرة: كانت العوامل الدينية والفلسفية تلعب دوراً أكبر في تشكيل العقل في عصر راندال، بينما تلعب التكنولوجيا والتنوع الثقافي دوراً أكبر في عصرنا.

إن هناك دور محوري تلعبه التكنولوجيا والتعليم في تشكيل عقول الأفراد في عصرنا الحالي. فهما في حالة شراكة في تشكيل العقل
لقد شهدنا في العقود الأخيرة تطوراً مذهلاً في مجال التكنولوجيا، مما أحدث تغييرات جذرية في جميع جوانب حياتنا، بما في ذلك التعليم. لم يعد التعليم مقتصراً على الفصول الدراسية التقليدية والكتب المدرسية، بل أصبح يمتد إلى آفاق أوسع بفضل التكنولوجيا.

تأثير التكنولوجيا على تكوين العقل:
* توسيع آفاق المعرفة: تتيح التكنولوجيا الوصول إلى كم هائل من المعلومات والمعارف من مختلف أنحاء العالم، مما يوسع آفاق الفرد ويغذي فضوله.
* تنمية المهارات: تساعد التكنولوجيا في تطوير مجموعة واسعة من المهارات، مثل التفكير النقدي، وحل المشكلات، والتعاون، والابتكار.
* تغيير أنماط التعلم: تحول التكنولوجيا الطريقة التي نتعلم بها، حيث أصبحت التعلم مرناً ومركزاً على الطالب، مما يسمح لكل فرد بالتعلم بالوتيرة التي تناسبها.
* تطوير المهارات الرقمية: أصبحت المهارات الرقمية ضرورية في عصرنا الحالي، والتكنولوجيا توفر الأدوات اللازمة لتطوير هذه المهارات.

دور التعليم في عصر التكنولوجيا:
* تكييف المناهج: يجب على المؤسسات التعليمية تكييف المناهج الدراسية لتشمل المهارات الرقمية والتفكير النقدي.
* تهيئة بيئة تعليمية جاذبة: يجب على المدارس والجامعات توفير بيئة تعليمية محفزة ومجهزة بأحدث التقنيات.
* تدريب المعلمين: يجب تدريب المعلمين على استخدام التكنولوجيا بفعالية في العملية التعليمية.
* تشجيع التعلم الذاتي: يجب تشجيع الطلاب على التعلم الذاتي واكتشاف المعرفة بأنفسهم.

التحديات والفرص:
* تشبع المعلومات: قد يؤدي الكم الهائل من المعلومات المتاحة إلى صعوبة التمييز بين المصادر الموثوقة وغير الموثوقة.
* الإدمان على التكنولوجيا: قد يؤدي الإفراط في استخدام التكنولوجيا إلى الإدمان وتشتت الانتباه.
* الفجوة الرقمية: قد تتسبب التكنولوجيا في زيادة الفجوة بين من لديهم إمكانية الوصول إليها ومن لا يملكونها.
* الفرص: تتيح التكنولوجيا فرصاً هائلة للتعلم والتطوير الذاتي، وتساهم في بناء مجتمعات أكثر معرفة وتسامحاً.

ختاماً:
التكنولوجيا والتعليم يشكلان ثنائياً قوياً يساهم في تشكيل عقول الأفراد في عصرنا. من خلال الاستفادة من إمكانات التكنولوجيا وتطوير المناهج التعليمية، يمكننا بناء أجيال قادرة على مواجهة تحديات المستقبل وبناء مجتمعات أكثر ازدهاراً.

إضافة لما سبق، فإن تكوين العقل الحديث في ظل عصر السوشيال ميديا والمعلوماتية الرقمية له طابع متميز. حيث يشهد عصرنا تحولات جذرية في كافة المجالات، أبرزها التحولات التي طرأت على طبيعة التفكير والإدراك بفعل الثورة الرقمية وتوسع نطاق استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. فالسوشيال ميديا والمعلوماتية الرقمية باتتا تشكلان بيئة جديدة لتكوين العقل الحديث، حيث تتشكل الأفكار والمعتقدات وتتفاعل مع بعضها البعض بسرعة غير مسبوقة.

* التأثيرات الإيجابية
١- توسيع آفاق المعرفة: تتيح السوشيال ميديا والإنترنت الوصول إلى كم هائل من المعلومات والمعارف من مختلف الثقافات والحضارات، مما يساهم في توسيع آفاق الفرد وتنمية فكره.
٢- تعزيز التواصل والتعاون: تسهل هذه المنصات التواصل بين الأفراد من مختلف أنحاء العالم، مما يعزز التعاون وحل المشكلات العالمية.
٣- تنمية المهارات الرقمية: يتعلم الأفراد مهارات جديدة مثل البرمجة وتصميم المواقع والتحليل الإحصائي، مما يهيئهم لسوق العمل المتغير.
٤- تطوير التفكير النقدي: يتطلب التعامل مع الكم الهائل من المعلومات على الإنترنت تطوير مهارات التفكير النقدي والتمييز بين المصادر الموثوقة وغير الموثوقة.

* التحديات والآثار السلبية
١- انتشار المعلومات المضللة: تساهم السوشيال ميديا في انتشار الأخبار الكاذبة والشائعات، مما يؤثر على الرأي العام ويؤدي إلى تدهور الحوار العام.
٢- الإدمان على الإنترنت: قد يؤدي الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلى الإدمان والانعزال الاجتماعي، وتأثير سلبي على الصحة النفسية.
٣- فقر الانتباه: يؤدي التنوع الكبير في المعلومات المتاحة على الإنترنت إلى صعوبة التركيز والاستيعاب العميق للمعلومات.
٤- تضخيم الأنا الرقمية: قد يؤدي السعي للحصول على الإعجاب والتفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي إلى تطوير شخصية غير واقعية وتضخيم الأنا.

فنحن في حقيقة الأمر نحتاج إلى تكوين عقل حديث متوازن من خلال:
١- تنمية مهارات التفكير النقدي: يجب تعليم الأفراد منذ الصغر كيفية التفكير النقدي والتمييز بين الحقيقة والرأي، والتحقق من مصادر المعلومات.

٢- التوازن بين العالم الافتراضي والواقعي: يجب تشجيع الأفراد على تحقيق التوازن بين حياتهم الرقمية وحياتهم الواقعية، وممارسة الأنشطة الاجتماعية والبدنية.

٣- تعزيز القيم الأخلاقية: يجب غرس القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد، مثل الصدق والاحترام والتعاون، لضمان استخدام التكنولوجيا بشكل إيجابي.

٤- التعليم المستمر: يجب مواكبة التطورات التكنولوجية من خلال التعليم المستمر وتطوير المهارات الرقمية.

ختامًا، إن كان تشكيل العقل الحديث في الماضي تأثر بالأفكار الفلسفية التي سادت في عصر النهضة الأوروبية وما تبعها من ثورات صناعية وسياسية وتحولات اجتماعية واقتصادية فإن ذلك هو ما قادنا في العصر الحالي إلى عصر السوشيال ميديا والمعلوماتية الرقمية التي فرضت تحديات وفرصًا في نفس الوقت لتكوين العقل الحديث. ومن خلال الوعي بهذه التحديات والعمل على تطوير المهارات اللازمة، يمكننا الاستفادة من هذه التقنيات لتعزيز معرفتنا وتطوير مجتمعاتنا. حيث أن بناء المعرفة هو عملية ديناميكية تراكمية منذ أن سكن الإنسان العاقل الأرض.