د. شوكت المصرى
قامت الدنيا ولم تقعد منذ إعلان وزارة التربية والتعليم عن رؤيتها الجديدة لنظام الثانوية العامة، الذى قررت الوزارة تعديله إلى مسمًى قديم هو «البكالوريا»، هذا الإعلان الذى لا يعلم أحد طبيعة طرحه لـ«الحوار المجتمعى» كما أعلن الوزير، فى ظل وجود جلسات «الحوار الوطنى» التى يختص محورٌ رئيسى فيها بالتعليم، ولعله كان من الأولى بالوزير الدعوة إلى طرح الموضوع على لجنة الحوار الوطنى، قبل عرض التعديلات المزعومة على لجان التعليم بمجلسى الشيوخ والبرلمان لإقرارها أو تعديلها أو إلغائها برمّتها.
وبعيدًا عن الإجراءات السالفة، تأتى مشكلة إضافة درجات مادة «الدين» إلى المجموع فى صدارة المناقشات التى شغلت الملايين على صفحات التواصل الاجتماعى وبرامج الـ«توك شو»، وفى واقع الأمر أن التراجع عن هذا القرار هو حتميّة وطنية لا بديل عنها، فالسيد الوزير ربما تغيب عنه أمور أساسية فى قراراته ورؤيته كلها فيما يتعلق بهذا الأمر، وسأُجملها لسيادته وللقارئ والمهتمين فى نقاط واضحة:
- أولًا: لا يمكن قياس متغيّر بمتغيِّر آخر، بمعنى أننا حين نريد تقييم مجموعة دارسين (متغيّر) يجب وضع معيار قياس (ثابت)، وهو هنا الامتحان.. وبما أن مفردات الامتحان لمادة الدين (الإسلامى) و(المسيحى) ستكون متغيّرة، فإن القياس مختل. وستحدث فتنة لأسباب عدّة بين عنصر الأمة المصرية الواحد بمُكوِّنَيْهِ الرئيسيين.
- ثانيًا: هل لم ينتبه مَن طرَحَ الفكرة إلى طبيعة المسؤولين عن تدريس مادة الدين فى مختلف ربوع مصر من المدرّسين، فى ظل أزمة حقيقية فى الخطاب الدينى السائد، الذى يضرب التطرف والخلل أركانه، ونحن نواجه تحديات إقليمية تحاصرنا من كل الجهات، فهل فكَّرَ السيد الوزير فيما سيُقال للطلاب داخل الحصص المدرسية؟، وأرجو ألا يُحدثنى عن الرقابة والتفتيش، فليس من المنطق أن أعطى «القط مفتاح الكرار»، وفكرة السيطرة والرقابة على آلاف المدارس بطرق منضبطة أمر أقرب إلى المستحيل.
- ثالثًا: ربما تحدث السيد الوزير عن ضرورة الارتفاع بالأخلاق والسلوكيات فى المدارس، وذلك بإعادة الاعتبار إلى التربية الدينية، بوصف هذا حلًّا لما نعانيه من مشكلات سلوكية فى بعض تصرفات أبنائنا.. ويبدو أن القائمين على وزارة التربية والتعليم لا يعرفون الفرق بين «الوعى» و«المعرفة» و«التعليم» و«الدراسة». وإلا فلماذا نعانى مثلًا من سوء فى مستوى أبنائنا فى «اللغة العربية»، رغم أنها (١٠٠) درجة من مجموع الثانوية العامة؟!
- رابعًا: ألَا يفتحُ هذا الجدل بابًا خلفيًّا لطرح بعضهم فى ظل النقاشات الدائرة وجودَ مادة موحّدة للتربية الدينية، بصبغةٍ ومفردات متقاربة من كِلتا الديانتين؟! وأظن أن معالى الوزير ومستشاريه وأجهزة الدولة العليا تعلم خطر اختراق أفكار «الديانة الإبراهيمية» للمجتمعات العربية فى السنوات الأخيرة، وما يمكن أن يترتب على هذا من كوارث وأخطار.
ومما سبق لا يسعنى القول إلا أن الخطوات والخطط التى تطرحها وزارة التربية والتعليم هى خطوات غير مدروسة.. ربما جاءت فاعلة فى جزءٍ منها، حيث تقليل ضغط المواد على أبنائنا، واستحداث مسارات جديدة بدلًا من تقليدية «العلمى والأدبى»، وهو أمرٌ محمود وجدير بالطرح والتفكير والتنفيذ، لكن الأزمة الحقيقية تتبدى فى الهوّة الواسعة بين مركزية الإدارة والتخطيط وواقعية التطبيق العملى، خاصةً فى مجال التعليم، الذى يبتعد خبراؤه الحقيقيون عن الفاعلية والتأثير والرأى.
وفى هذا المضمار يجدر التذكير بما كتبته فى مقالٍ سابقٍ هنا، فيما يتعلّق بمعايير الجودة فى التعليم، تحت عنوان «إفساد جودة التعليم»، مع إضافة ما انتهت إليه مؤخّرًا دول أوروبية، منها فرنسا وألمانيا على سبيل المثال، من إلغاء العمل بنظام «الساعات المعتمدة» فى التدريس، والتحوّل إلى نظام «النقاط»، وتغيير معايير الجودة التى كانت متبعة هناك منذ منتصف التسعينيات، وذلك بعد فشل نظام الساعات المعتمدة فى تحقيق مستهدفاته.
وأقول للمرة المليون إن معايير الجودة- التى تسعى مؤسساتنا التعليمية (فى مدارسنا وجامعاتنا) إلى اللحاق بركبِها وتنفيذ ضوابطها- بعيدة كل البُعد عن الجودة فى التعليم، وليُسأل فى هذا مئاتُ الخبراء المصريين بمختلف مراحل التعليم، ومنهم أعضاءُ برلمان ومفكرون كبار مهمومون بملف التعليم المصرى ومستقبله، فجميعهم سيقولون لك إنها مجرد مجموعة من الأوراق والمستندات الفارغة من حقيقتها وفاعليتها، تشغل وقت المدرسين وأساتذة الجامعات دون ناتج حقيقى ملموس.. مع التأكيد أننا وهؤلاء جميعًا نحرصُ تمام الحرص على الارتفاع بجودة التعليم وتغيير ما فيه من سوء أو نقاط خلل حرصًا على مستقبل هذا البلد ورفعته.
وأخيرًا إننا نأملُ جميعًا فى النهوض بالتعليم المصرى وتطويره وتحقيق جودته بما يلائم مدخلاتنا وطبيعة مجتمعنا ومستهدفاتنا، وما يليق بتاريخنا وحضارتنا التى كنا ومازلنا روادًا فيها رغم أنف التحديات وقاصرى الرؤية والكارهين والمناهضين، لذا وجبَ أن يكون تغييرُنا بعيدًا عن تعريض مجتمعنا لفتن لا طاقة لنا بمجابهتها، باحثين بصدق عن أدواتٍ وخطط فاعلة تحقق تغييرًا حقيقيًّا فى هذا المشروع القومى الذى تضعه القيادة السياسية المصرية على قائمة أولويّاتها.
دعونا إذًا نبدأ، (ولو تأخرنا)، بدايةً صحيحة، فننظر فى وضع المعلِّم وأساتذة الجامعات ماليًّا وإداريًّا، محاولين وقف نزيف عقولنا وهجرتها إلى الخارج، وناظرين بحسم لخطر إهدار ميزانية الدولة فى لجان بائسة لتطوير المناهج، وفى طبع كتب دراسية لا يفيدُ منها أبناؤنا، مع تقليل الضغط على أسر التلاميذ بأسعار الكتب الخارجية والدروس الخصوصية، ومن ثَمَّ سننجح فى إعادة الاعتبار للمدرسة ودورها فى العملية التعليمية كلها. لتصبحَ ضرورة المعرفة على اختلاف مجالاتها النظرية والتطبيقية والأدبية والعلمية هى شاغلنا الشاغل بالمقام الأول، وتأتى من بعدها احتياجات سوق العمل (المتغيرة) فى المقام الثانى.. ربما استطعنا تحقيق أحلام وطننا وأمتنا فى غدٍ لناظِرِه قريب.. مهما تكبدنا من جهدٍ فى العمل والبناء، ومهما طال بنا أمدُ الصبر والانتظار.
نقلا عن المصرى اليوم