منصور الجنادي
سأل الأب ابنته نادية عن المواد التى يدرسونها فى المدرسة، فقالت له: نحن ندرس أحياء، جغرافيا،.... و«تى أو كى» (TOK). استغرب الأب من اسم المادة الأخير، فأوضحت له الشابة ذات السادسة عشرة من العمر أن تلك الكلمة هى اختصار Theory of Knowledge. تذكر الأب كيف كانت مادة «نظرية المعرفة» هذه شديدة الصعوبة عندما درسها بالجامعة، فكيف لابنته فى هذه السن الصغيرة أن تتعلمها؟. ولكن لأن أسلوب التعليم كان متخلفا فى الجامعة ومتقدما فى مدرسة ابنته، كانت مادة «نظرية المعرفة» هذه واحدة من أسهل وأحب المواد لابنته نادية. كان الأب يتعلم نظرية المعرفة عن طريق كتب صعبة لكانط وديكارت، فى حين أن معلمة نادية بالمدرسة كانت تطلب منهم أن يجيبوا على أسئلة مثل لماذا نرى الفصل الدراسى الذى نجلس فيه بشكل مختلف إن أدرنا وجوهنا ونظرنا إلى الخلف؟، فأجاب بعض التلاميذ «لاختلاف وجهة النظر». وهكذا يتعلم طلاب مادة «نظرية المعرفة» معنى «وجهة النظر» وضرورة احترامها، والتعايش مع «الآخر» المختلف. يتعلم الطلاب أن نظرة الإنسان للأمور تختلف باختلاف موقعه، ولحظة رؤيته، أى باختلاف الزمان والمكان. الحقيقة التى لم تدركها الغالبية العظمى من الشعوب العربية، على الكثير من المستويات، بعد.

بفضل هذه المادة (نظرية المعرفة)، فهمت نادية وزملاؤها كيف أن فكرهم وقناعاتهم ومشاعرهم تختلف باختلاف الزمان والمكان، أى أن فكر الإنسان نسبى ولا يمكن أن يكون مطلقًا. ببساطة لأن أى فرد منا لا يستطيع أن يوجد فى كل مكان وزمان، وليس له أعين بجوانب وخلف رأسه، ليرى فى جميع الاتجاهات.

من خلال نظام تعليمى واضح وبسيط، يعتمد على النقاش والبحث والفهم، وليس على الحفظ، تقفز مادة «تى أو كى» بالشباب إلى القرن الواحد والعشرين، وتعلمه معنى البحث العلمى، دون المساس بتراث أو معتقدات، بل مع احترام وتثمين الروحانيات، والوعى بقيم التعددية وحرية الرأى والعقيدة.

«نظرية المعرفة» هى إحدى مواد نظام البكالوريا التعليمى، المنتشر بكافة أنحاء العالم. لذلك كان خبر إدخال نظام البكالوريا إلى الثانوية العامة فى مصر، خبرًا سعيدًا لكل من عرف ذلك النظام عن قرب. ولكن، هل سيدخل نظام البكالوريا إلى المدارس المصرية بكامله، أم بعد حذف مادة «نظرية المعرفة» منه؟.

نظرية المعرفة فى نظرنا، ليست إحدى أهم المواد التعليمية للمرحلة الثانوية فحسب، بل لها أهمية خاصة بالنسبة لمصر والشعوب العربية، نظرًا لأن مستقبل الأوطان العربية صار على المحك الآن. توسع قوى أخرى فى الأراضى العربية أصبح واقعًا، ولم يعد اقتسام «التركة العربية» كما تم اقتسام تركة «الرجل المريض» العثمانية، نظرية مؤامرة.

صراعات العالم اليوم صارت «ذهنية» وليست عسكرية فقط. وصراعات الشرق الأوسط قد تحسمها الميلشيات العقائدية، والانقسامات الطائفية، الناتجة عن افتقاد العرب للبوصلة المعرفية. وهنا تتضح أهمية مادة «نظرية المعرفة» بوصفها تحصينا ضد الأوهام الفكرية والطائفية، ووسيلة للحاق بعصر التكنولوجيات التى يتصيد بها العدو من يشاء فى منزله، ويهدم بنية مدينته التحتية، ويُهجِّره من مكان لآخر، ويحرمه من أبسط حقوقه الإنسانية.

نظرية المعرفة، وتُسمى أيضًا فلسفة العلم «إبستمولوجى»، هى فرع الفلسفة المهتم بطبيعة وميكانيزمات المعرفة. على سبيل المثال «ما الصواب وما الخطأ، الحقيقة والخيال، الحق والباطل؟»، كيف ندركهم، ولماذا يختلف إدراك الصينى لهم عن العربى مثلًا؟.

مادة «نظرية المعرفة» تثير شغف الشباب وتحفزه على المعرفة والبحث المستمر، وتساعد الشباب على التمييز بين الوهم والواقع. تلك جميعها صفات نفتقدها فى مجتمعنا، وتؤثر سلبا على اقتصادنًا وحياتنا، وقيمة عملتنا وغلاء المعيشة، وكرامة المواطن فى نهاية الأمر.

تعتمد مادة «نظرية المعرفة» على العمل المشترك. على سبيل المثال، تختار كل مجموعة من الطلاب موضوعًا يهمهم، حتى وإن كان كرة القدم. ويطلب من كل مجموعة أن تعود بعد أسبوع مثلًا لتقديم نتائج بحثهم فى «النت» أو المكتبة، إلى زملائهم؛ مجيبين على أسئلة محددة مسبقًا مثل «من أين أحصل على معلوماتى عن كرة القدم؟»، هل هناك مصادر أخرى؟، ما نقاط قوة وضعف كل من هذه المصادر؟، ولماذا؟.. وسائل سحرية لانفتاح العقول، وعمق الفكر، وفهم منهج وقيمة العلم.

حذف نظرية المعرفة من نظام البكالوريا، سيكون خطئًا فادحًا فى حق الوطن، ومستقبل الأحفاد.
نقلا عن المصرى اليوم