حنان فكري
عودة الكتاتيب ثم إضافة مادة الدين للمجموع ثم "هوجة" تعريب الطب والتراجع عنها، مشاريع قرارات ظهرت في الفترة الأخيرة، لتثير انقسامات في المجتمع المصري، ما بين مؤيد ومعارض، تختفي الغاية المفقودة وتظهر بوادر تعكس نية معقودة لردة في المشهد التعليمي، تسحبنا للخلف، مشاريع قرارات لو حذفنا أسماء وجهات الإعلان عنها تُقسم أنها لم تصدر ابدأ في عهد يبشر بالدولة المدنية، ويكرس للجمهورية الجديدة. ويجني ثمار ثورتين اشعلتا الميادين بنداءات الدولة المدنية. لا أصدق أننا تزامنا مع حلول الذكرى الرابعة عشر لثورة 25 يناير، وبعد مرور اثنى عشر عاماً على ثورة 30 يونيو، ما زلنا نكافح من اجل ابسط حقوق المواطنة وتفكيك هيمنة الخطاب المؤدلج دينياً لارساء دعائم الدولة المدنية.فلماذا كل هذا الاضطراب في المشهد التعليمي؟
تلك الاقتراحات كان آخرها دعوات جديدة صدرت عن جامعة الأزهر لتعريب الطب، بدأت فكرة تعريب المناهج حينما أعلن الدكتور داود سلامة رئيس جامعة الأزهر، خلال احتفالية اليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر 2024، أن مجلس الجامعة اتخذ خطوة تاريخية بتشكيل لجنة لدراسة تعريب علوم الطب والصيدلة والهندسة، و في 11 يناير الجاري أصدر الدكتور سلامة قرارا، وجه خلاله بتشكيل لجنة من قسم الطب النفسي بطب الأزهر لتعريب الطب النفسي برئاسة الدكتور محمود عبد الرحمن حمودة أستاذ الطب النفسي بالقسم ورئيس قسم الطب النفسي الأسبق بطب الأزهر، كبداية لتعريب باقي أقسام كلية الطب، وفقا لصحيفة "الأهرام".
اثار القرار لغطاً واسعاً في الأوساط العلمية، مما دفع الدكتور محمود صديق نائب رئيس جامعة الأزهر للدراسات العليا والمشرف العام على مستشفيات الجامعة، للتصريح بأن قرار تعريب العلوم الطبية بجامعة الأزهر لا يزال "تحت الدراسة والمناقشة"، مؤكدا أن اتخاذ قرار بتعريب العلوم الطبية في النهاية هو "قرار دولة" أي ان الجامعة لا يمكن ان تتخذ قرارا منفردا، وقال ان القرار ما زال تحت الدراسة. وهو ما تم تفسيره بأنه تراجعا عن القرار. وان القرار تم طرحه لجس نبض المجتمع.
ان اقتراح تعريب الطب يظهر بين الحين والآخر في عباءة المحافظة على الهوية اللغوية، لكنه يثير في عمقه أسئلة مُلحة. فما الذي يقف خلف هذا القرار؟ وهل هذه الخطوة حقًا جسرٌ بين العلم والثقافة العربية، أم أنها أداة ضمن استراتيجية أوسع تعيد تشكيل الهوية الجامعية؟ كخطوة جديدة في مسار طويل من الهيمنة الفكرية التي تستهدف صياغة عقول الأجيال القادمة وفق قوالب أيديولوجية. وهل يمكن لتلك المبادرات أن تُفضي إلى نهضة تعليمية حقيقية، أم أنها مجرد انعكاس آخر لهيمنة الخطاب الديني على كل مفاصل الحياة العلمية والمجتمعية؟ هل نحن أمام مشروع الحفاظ على الهوية، أم أمام تهديد متصاعد لهوية المجتمع يدفعه إلى هاوية الانغلاق؟
في وجهة نظري،هذه الخطوة ليست إلا حلقة جديدة في سلسلة محاولات طمس العلم والعقلانية، واستبدالهما بهيمنة خطاب ديني، يحاصر الفكر ويقيد العقول. ويسيس التعليم ويحوله إلى أداة لتكريس القوالب الأيديولوجية على حساب جودة المعرفة ومستقبل الأجيال.
نعم جودة التعليم والمعرفة في خطر لإن جميع كليات الطب المصرية معتمدة في التصنيفات العالمية لأفضل الجامعات بالعالم، وتم إدراج النظام التعليم العالي ضمن اتفاقية اليونسكو. كما تقدم الجامعات في مصر أسلوب تعليمي مميز، وهو نفسة المتبع بأكبر كليات الطب العالمية، والتعريب يخرجنا خارج سياق الزمن واللغة العالمية التي يتحدثها العلماء، ومن شأنه خلق لغة جديدة بمصطلحات عربية صعبة بعيدة كل البعد عن لغة الناس اليومية.
وبحسبة بسيطة يمكن كشف المخاطر المحتملة، فاذا تم التعريب في جامعة الأزهر، قد يتم التعريب في سائر الجامعات، وتخرج شهادة الطب في الجامعات المصرية من اعتماد الجامعات العالمية، وإذا لم يتم تعريب العلوم الطبية في سائر الجامعات سيتحول مصير خرجي جامعة الأزهر بين اندادهم، فالمناهج لن تضاهي المناهج التي يتم تدريسها في الكليات المناظرة سواء داخل مصر أو خارجها، وسيواجه الخريجيون صعوبة في حضور المؤتمرات الطبية التي تعقد داخل مصر وخارجها، وكذلك في رسائل الماجستير والدكتوراه. مما يدفعهم الى مصير مجهول بسبب عدم الاعتراف العالمي بدرجتهم العلمية، وهو ما يعيدنا لذات النقطة وهي الخروج من سباق العلم الى الانغلاق.
دعونا نفكر بشكل عكسي ليعيد السؤال طرح نفسه مرة اخرى، لماذا نثير مثل هذه الاقتراحات التي تقسم المجتمع وتفتح ابوابا بالكاد اغلقناها منذ سنوات؟ من امثلة انه اذا تم تعريب الطب للحفاظ على الهوية اللغوية العربية هل من حق الكليات الاكليركية مثلا تشييد جامعات متخصصة ودراسة علوم طبية باللغة القبطية؟ الم يكن حريا بالمقترحين التفكير في توحيد التعليم بدلا من تقسيمه بناء على الايديولوجيات والهويات الدينية ليظل التعليم الديني متعلقا فقط بالعلوم الدينية، ويتم ترك العلوم الأخري للجامعات الحكومية؟ هذا الاقتراح يفتح ابواب جهنم على المجتمع المصري، ويثير تساؤلات نحن في غنى عنها.
حنان فكري