( 1894- 1954 )
إعداد/ ماجد كامل
يمثل الراهب داود المقاري ( 1894- 1954 ) أهمية كبيرة فى تاريخ الكنيسة خصوصا فى مجال اللغة القبطية ، فهو أول من أخترع آلة كاتبة لكتابة الحروف القبطية كما سوف نرى فى هذا المقال .
ميلاده ونشأته :-
ولد الطفل "وديع سعيد " فى 26 يوليو 1894 ،وتسمى أولا بأسم "بديع " . تدرج فى مراحل التعليم المختلفة حتى حصل على البكالوريا عام 1913 ، وعمل موظفا بوزارة الصحة ، ولقد تميز منذ طفولته بعشق الكنيسة القبطية فى طقوسها وصلواتها . ولقد أتسم الطفل بديع بالهدوء والوداعة ،فكانت الأسرة تطلق عليه أسم "وديع " بدلا من " بديع "ولصق الأسم به جدا ، حتى أنتهز فرصة عمله بنظارة الحربية ، وقام بتغيير أسمه فى الأوراق الرسمية من" بديع " إلى " وديع " .
التحاقه بكلية الحقوق :
التحق أثناء فترة عمله بنظارة الحربية بكلية الحقوق ، وتمكن من الحصول على الليسانس عام 1927 ، ثم أكمل الدراسات العليا ليحصل على دبلومين فى القانون العام والعلوم الاقتصادية والسياسية . بالاضافة إللى حصوله على دبلوم معهد الاختزال البريطاني بالقاهرة ومواصلة دراسته للغات ، فأجاد العبرية والإنجليزية والفرنسية والقبطية مع إلمامه باللغات الألمانية واللاتينية والعبرية واليونانية .
خدمته بالسودان :
مع مطلع عام 1914 ، أعلنت نظارة الحربية عن حاجتها لمترجمين وصرافين بمصر والسودان ، فتقدم الشاب وديع للعمل هناك . وبالفعل تسلم العمل يوم 24 يناير 1914 بتعيينه مترجما تحت الاختبار بمرتب شهري ثمانية جنيهات ، وبعد إثبات كفاءته ، توجه إلى السودان خلال شهر أبريل ، وقد ملأ شنطته بكل ما تمكن من حمله من كتب ومراجع وقواميس فى شتى المعارف وباللغات العربية والإنجليزية .
نقله للعمل بوزارة الصحة :
بعد عودته من السودان ، تم نقله إلى وزارة الصحة وتنقل فى وظائفها المختلفة ، حتى قدم استقالته منها عام 1943 .
عضويته فى الجمعيات القبطية المختلفة :-
+شارك فى تأسيس جمعية جمعية السلام القبطية بالفجالة .
+صار عضوا فى مجلس ادارة جمعية الأيتام عام 1930 .
+انضم لجمعية أبناء الكنيسة القبطية ، وهى الجمعية التي أهتمت بشراء أرض الكنيسة وبنائها .
رهبنته بدير القديس أبو مقار :
فى يوم الجمعة 15 يناير 1943 ، تمت رهبنته بدير القديس أبو مقار ، وأعطى أسم "داود المقارى " ، والجدير بالذكر أنه البعض قد تشكك فى الغرض من رهبنته سريعا ، أنها مجرد إجراءات شكلية للترشيح للكرسي البطريركي الذي كان خاليا فى تلك الفترة . ولقد قام بخدمات كثيرة داخل الدير ، نذكر منها زرع شجيرات الفاكهة التي كان يستحضرها من القاهرة على نفقته الخاصة ، كما قام بترميم القصر الأثري بالدير ، ونظرا لعلاقته الطيبة بالمسئولين فى الحكومة ، اتفق مع أحدى الشركات على رصف الطرق المؤدية إلى الدير ، ولقد قام بعض قادة الجيش البريطاني بزيارة الدير فى تلك الفترة ، ولما رأوا فيه ثقافته الواسعة وإجادته لللغة الإنجليزية ، قاموا بإهداء الدير سيارة نقل كبيرة .
أهم الكتب والمؤلفات التي أهتم بطباعتها :-
+اهتم بطباعة خولاجي باللغتين العربية والقبطية يشمل الثلاقة قداسات .
+ اهتم بطباعة كتاب أجبية يحمل الصلوات النهارية والليلية .
+اهتم بطباعة تفسير رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية بحسب تراث الآباء .
+ اهتم بطباعة بعض عظات القديس يوحنا ذهبي الفم .
اهتمامه باللغة القبطية :
اهتم اهتماما شديدا باللغة القبطية ، وكان يبذل كل جهده من أجل نشرها ، وكان يلقى عظات بها ويترجم منها واليها ، فقام بتصميم حروف للآلة الكاتبة بالحروف القبطية ، وساعده فى تنفيذ هذا المشروع عالم القبطيات الكبير " يسى عبد المسيح " ( 1898- 1959 ) . وكان يوجد عنده طموح كبير لطباعة الكتاب المقدس كله باللغتين العربية والقبطية ، ولكن طروف الحرب العالمية الثانية وأثرها على ارتفاع أسعار الورق منعته من تنفيذ هذا المشروع ، لكنه قام بتنفيذ طباعة سفري التكوين والخروج من العهد القديم ، وجميع أسفار العهد الجديد ، وقام بعمل معرض لما نشره من ثقافة قبطية ، زاره فيه البابا يوأنس التاسع عشر ( 1929- 1942 ) ، وأبدى إعجابه وتشجيعه لهذه المنشورات ، وبعد أن تصفح هذه المنشورات ، هتف قائلا " هذا أثمن كتاب فى العالم يمكن أن يقتنيه أى مسيحى قبطى " .
ترشيحه للبطريركية :-
رشح الراهب داود المقارى للبطريركية مرتين ، المرة الأولى عقب نياحة البابا يوأنس التاسع عشر فى فجر يوم الأحد 21 يونيو 1942 ، ورشح البعض الراهب داود المقارى لكي يكون هو البطريرك بعده ، ولكن بعض المطارنة تشككوا فى مدى صحة رهبته ، وأنه ترهبن خصيصا لكي يصبح بطريركا . فاجتمع المجمع المقدس فى 3 فبراير 1943 ، ناقش فيه موضوعا واحدا هو عدم الاعتراف برهبنة " وديع سعيد " . وإزاء ذلك أصدر الانبا ابرآم مطران البلبنا وناظر دير القديس أبو مقار بيانا قال فيه " عند أخذ رأينا فى صحة رهبنة الراهب داود المقارى قررت للجميع أن رهبنته شرعية وقانونية ، وأني أمرت برهبنته لثقتى فيه وما لمسته من تقواه وعلمه وعفته " . وإزاء الإنقسام الحادث فى المجمع ، تقدم الأنبا مكاريوس مطران أسيوط وشيخ المطارنة بحل وجد قبولا من الجميع ، وهو تأجيل البت فى مدى صحة رهبنة "وديع سعيد " إلى ما بعد انتخاب البطريرك الذى سيكون له الحق فى قبوله راهبا من عدمه . وبذلك استبعد "وديع سعيد " من الترشيح الأول للبطريركية .
وفى يوم 4 فبراير 1944 ، تم انتخاب الأنبا مكاريوس بابا الإسكندرية رقم 114 . وبعدها أجتمع المجمع المقدس فى 12 مايو 1944 ، وقرر قبول رهبنة الراهب داود المقارى
الترشيح الثاني للبطريكية :-
بعد نياحة البابا مكاريوس الثالث فى 31 أغسطس 1945 ، تجدد الأمل فى ترشيح الراهب داود المقاري لكرسي البطريركية ، وبالفعل كثف مؤيدو القس داود المقارى جهودهم لحصوله على أكبر عدد من الأصوات ، لكن حدث إضراب بين العمال النقل العام فى يوم الانتخاب مما عطل كثير من الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم وبذلك فاز الأنبا يوساب على منافسه .
تأسيس كنيسة العذراء روض الفرج :
فى أوائل عام 1947 ، أعلنت الشركة العقارية عن وجود قطعة أرض فى منطقة طوسون للبيع ، فقام الراهب داود المقاري بالتوجه لرؤيتها ، وكان معه الشماس " نظيم عبد المسيح " ( القمص يوحنا عبد المسيح فيما بعد ) . وحجز ست قطع مساحة كل منها مائة وخمسون مترا مربعا ، وقام أبونا داود بالتعاون مع شماسه " نظيم " بالصلاة الربانية على قطعة الأرض ثم قال بعدها " هنا كنيسة باسم السيدة العذراء " . وظل طوال الفترة من آخر مارس حتى آخر يونيو 1947 ، يعلن فى جريدة " الأنوار " عن فتح باب التبرع للمساهمة فى منشآت الجمعية بأرض طوسون دون إى إشارة إلى إنشاء كنيسة ضمن هذه المشروعات .
وبدأت التبرعات السخية تنهال على مقر الجمعية نظرا لشعبية القس داود المقارى مما ساعد فى سرعة البدء فى التنفيذ . إلى أن تم افتتاح القاعة فى ليلة عيد السيدة العذراء حالة الحديد فى 28 يونيو 1948 .
ثم تم افتتاح الكنيسة للصلاة وتدشين مذابحها يوم الأحد 7 نوفمبر 1948 ، وقام بصلاة التدشين نيافة الأنبا ثاؤفيلس أسقف ورئيس دير السريان . وفى يوم 7 يوليو 1949 ، قام بافتتاح نادي للأولاد أسماه " النادى المريمى "
تأسيسه لجريدة الأنوار :
كانت " الأنوار " هى المنبر الذي يصل به إلى قلب وعقل كل من يقرأها ، ولقد حرص أن يستكب فيها العديد من كبار الكتاب ليس المرموقين فقط ، بل أفسح المجال للشباب والفتيات ، وكانت سعادته بالغة حين أصبح للأنوار مطبعة خاصة فى دسمبر 1947 بعد عام ونصف من بدء صدورها . وازدات سعادته بصدور الجريدة باللغتين العربية والإنجليزية .
أهم كتاباته بالمجلة :-
لم يكن الأب القس داود المقارى يسجل أسمه صراحة فى المقالات التي كان يكتبها فى جريدة " الأنوار " ، وإنما كان يكتفي بكتابة الحروف الأولى من أسمه فقط . وأحيانا كان يستعمل رموزا وإشارات مثل : ابن الأنوار ،رئيس التحرير .... الخ ، ويوجد بعض المرات القليلة التي وقع فيها أسمه صراحة ، هى المرات التي كانت تذييلا لثمانية خطابات مفتوحة موجهة إلى المندوب البابوى ( كنيسة روما ) فى مصر . ولقد سجل أرشيف الجريدة بعض المقالات الهامة التى تكشف عن أهمية الهوية القبطية فى كتاباته ، فلقد كتب مقالين متوالين بالقسم التاريخي بمجلة " الإيمان " التي كان يصدرها المتنيح القمص " جرجس بطرس " بعنوان " الأمة القبطية أمة تاريخية " ، داعيا فيه الأقباط إلى ضرورة الاهتمام بتاريخها ، فأمة تجهل تاريخها لا تتهيأ لا خير فى مستقبلها " . وفى باب بحوث الأنوار كتب سلسلة مقالات عن وسائل الإصلاح الدينى ، وفيه عرف مفهوم الإصلاح ، فقال " الإصلاح فى العرف الذي درج عليه الناس وتواضع عليه قادة الفكر والرأى هو تغيير نظام إلى أحسن منه – هو إبعاد فساد تحقق وجوده – هو التطوير فى الحياة لمسايرة الزمن والفلك الدائر – هو الجزء البارز من مهمة المسئولين والقادة – هو ثمرة العقل المفكر – هو عمل الإنسان الذى يهوى الحياة مؤديا واجبه بما يرضى الإله " .
وفى خطاباته المفتوحة إلى مندوب الفاتيكان ، يوجد خطاب يطالب فيه بعودة رفات مارمرقس الرسول إلى أرض مصر ( الخطاب نشر فى عدد شهر مارس 1949 ، وهو الأمر الذى تحقق بعد ذلك فى يونية 1968 فى عصر البطريرك القديس البابا كيرلس السادس ) .
ولقد دعا فى أحد مقالاته إلى ضرورة الاهتمام بالكلية الإكليركية ، فحالة المدرسة الحالية أصبحت لا تتناسب مع كرامة الكنيسة القبطية ، وأننا فى حاجة سريعة إلى تخريج رعاة مثقفين ثقافة عالية . كما دعا إلى ضرورة الاهتمام بنهضة " الصحافة القبطية " ، وفيه يطالب الكتاب والمفكرين بضرورة الاهتمام أن يكون صاحب جريدة قوية كبيرة تستحق الثمن الذي يدفعه المشترى فى سبيل الحصول عليها لقراءتها " .
كما كان صاحب رؤية مستقبلية فى ضرورة الاهتمام بمركز كنيستنا فى الخارج ، فكتب مقالا بهذا المعنى قال فيه " على أننا إذا رغبنا الوصول إلى هدفنا يجب علينا ان نسلك فى آن واحد طريقين وأن نسير فيهما حتى النهاية . يجب علينا أن نسير فى مد سلطان الكرسى الاسكندرى إلى كل البقاع التى تدعونا إليها أن يكون لنا فيها أناس ولو قل عددهم من اتباع الكرسى أو المقربين لمبادئه وتعاليمه وقد بدأنا والحمد لله بداية طيبة فى جنوب أفريقيا ، وأما السبيل الثانى فهو الاتصال بالعالم المسيحى الخارجي والمساهمة فى تكوين الروابط التى يراد إيجادها ، وفى الأيام الأخيرة كانت تعقد كثير من المؤتمرات المسيحية ولا يكون للكنيسة القبطية ممثل فيها " .
تاريخ نياحته وانتقاله للسماء :-
كان من المقرر أن يقام احتفال قومى بتذكار نياحة البابا كيرلس الرابع مساء يوم السبت 30 يناير 1954 فى القاعة المريمية بكنيسة العذراء روض الفرج ، وفى يوم السبت 30 يناير 1954 ، صلى القداس مبكرا ، وقضى الصباح كله فى وضع اللمسات النهائية للاحتفال والترتيب له ، وفى مساء نفس اليوم ، طرق أحد العمال على باب منزل القمص يوحنا عبد المسيح ويقول له " أبونا داود تعبان وعلى الفراش وعايزك " ، فقام القمص عبد المسيح بسرعة وتوجه إليه ، وبمجرد أن رآه أبونا داود قال " يا أبونا حنا سوف أموت الآن " فهم القمص يوحنا ليطلب الطبيب ، ولكن الراهب القس داود له "روحى تتحرك فلا تتعب وتحضر الأطباء " ولكن القمص يوحنا خرج مسرعا ليستدعى الطبيب المعالج ، ولكن فاضت روحه الطاهرة إلى السماء مساء يوم السبت 30 يناير 1954 .
كلمة الرثاء التي كتبها الأستاذ يسى عبد المسيح فى مجلة مدارس الأحد عدد شهر "مارس 1954 " :
فى مقال هام للمتنيح الأستاذ يسى عبد المسيح ، نشر فى مجلة "مدارس الأحد " عدد شهر فبراير 1954 بعنوان " فى طريق الأرض كلها " قال فيه من ضمن ما قال " قد نام حبيبنا داود لكنه سيقوم فى اليوم الأخير . وإن مات يتكلم بعد : تتكلم عنه أعماله الجليلة وأخلاقه الفاضلة ، تتكلم عنه الكنيسة التى أقامها فى شبرا على طراز كنيسة المعلقة ، والملجأ الذى أنشأه والأطفال الذين كانوا يعولهم ، تتكلم عنه اللغة القبطية التي كان يتطوع لتدريسها فى بعض الجمعيات ، يتكلم عنه الكتاب المقدس بالقبطية ...... حتى أصدر العهد الجديد بالقبطية وأصبح بإمكان كل قبطى غيور على لغة أجداده أن يحصل على نسخة منه ، يتكلم عنه القاموس الذى شرع فى إعداده باللغة العربية والقبطية وأصدر منه ملزمة واحدة وبالنسبة لغلاء الورق توقف العمل ولو ساعدته الظروف ما كان قد ونى على إتمام هذا المشروع الجليل ، يتكلم عنه الخولاجى الثلاثة قداسات الذى طبعه أخيرا طبعة مقننة وأضاف عليه الأجبية ، يتكلم عنه انكار الذات التى امتاز بها الراهب داود فإنه لم يكتب اسمه على أى من الكتب التى قام بإصدارها بل نسب كل ذلك إلى جمعية أبناء الكنيسة التى كان هو أحد أعضائها ، تتكلم عنه الرحمة التى اشتهر بها حتى أنه لم يهنأ إلا بجزء من مرتبه لنفسه ، أما باقيه فكان يتصدق به على الفقراء " .
(راجع نص الرثاء بالكامل فى عدد مجلة مدارس الأحد شهر مارس 1954 ، صفحة 94 )
مراجع المقالة :-
1-إيريس حبيب المصري : قصة الكنيسة القبطية ، الجزء السادس ( ب ) ، موقع الكنوز القبطية ، الصفحات من 108- 117 .
2-كنيسة السيدة العذراء روض الفرج :- سيرة الأب الطوباوى الراهب القس داود المقارى ، كنيسة السيدة العذراء روض الفرج ، 2004 .
3-القمص تادرس يعقوب ملطي :قاموس آباء الكنيسة وقديسيها مع بعض الشخصيات الكنسية ( ح – ص ) كنيسة مارمينا القبطية الأرثوذكسية ، نيو جرسي ، 2000 ، صفحتى 73 ،74 .
4-يسى عبد المسيح : فى طريق الأرض كلها ، مجلة مدارس الأحد ، عدد شهر مارس 1954 ، صفحة 94 .