بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر

نعم العذراء ولدت بالخطية الجدية لكنها تقدست بالروح القدس، نحن نُطوب العذراء ولا نعبدها. فالمسيح اختارها وأخذ جسداً منها وهي عذراء نقية وطاهرة وعفيفة، فهي إنسانة والدة الإله.

يقول القديس أمبروسيوس: " وبدون شك نعبد الروح القدس." لأن مريم كانت هيكلاً للإله، ويقول يوحنا الدمشقي: أُعلن أن مريم قديسة طاهرة البشارة "إذ أنها حرصت على نقاوة النفس والجسد كما يليق بمن كانت معدّة لتتقبل الله في أحشائها." واعتصامها بالقداسة مكنها أن تصير هيكلاً مقدسًا رائعًا جديرًا بالله العليّ "ومريم طاهرة منذ الحبل بها: "يا لغبطة يواقيم الذي ألقى زرعًا طاهرًا! ويا لعظمة حنّة التي نمت في أحشائها شيئًا فشيئًا ابنة كاملة القداسة". ويؤكد أن "سهام العدو النارية لم تقوَ على النفاذ إليها"، "ولا الشهوة وجدت إليها سبيلاً".

إن المولود لم يولد ولادة طبيعية من أبوين كباقي الناس، إنما ولادته من عذراء دليل على لاهوته، لأنه وُلد من الروح القدس وهذا ما عبر عنه الملاك بقوله " لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس " (مت 1: 2 ). لأن ولادته من عذراء بدون زرع بشر، تجعلنا نؤمن أنه لم يرث الخطيئة الأولى أي أول كل الخطايا البشرية التي فعلها آدم وحواء (الأصلية). وبهذا يكون قادر على خلاصنا، لذلك كان تركيز الرسول متى على أن العذراء لم تجتمع برجل قبل ميلاد السيد المسيح لإثبات ميلاده العذراوي.

القديس غريغوريوس النيسي: يربط أيضًا بين سفر النشيد ومزمور 44، فعندما يتكلم عن جمال العروس المحبوبة في سفر النشيد يستحضر جمال أورشليم السماوية "مدينة الملك"، فيقول: "يبدو الجلال الإلهي مثل جمال أورشليم السماوية الحرّة وأُم كل حر. وقد سماها الرب يسوع نفسه "مدينة الملك العظيم" (مت5: 35). وهي تحوي في داخلها غير المحوى لأن الله يسكن فيها ويزينها بحضرته، فتحصل أورشليم السماوية على جماله، جمال مدينة الملك العظيم"، والمزمور يقول عن هذا الجمال: "بجلالك وجمالك، أنجح وأملك من أجل الحق والدعة (الوداعة) والعدل (البرّ)" (مز44: 3و4سبعينية). وهكذا، فإن الجمال الإلهي قد اتصف بالحق والبر والوداعة، وبالتالي فإن النفس التي تشكّلت بمثل هذه الزينات تصير بهية مثل أورشليم التي تزينت بجمال الملك.

القديس باسيليوس الكبير: يعتبر أن الآية التي تخاطب العريس قائلةً: "باركك الله إلى الدهر" (مز44: 2) تشير إلى بشرية المسيح المتجسد من العذراء، والذي "كان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة" (لو2: 52)، كما أنه يعتبر الملكة ابنة الملك المذكورة في الآيات: "اسمعي يا ابنتي وأنظري وأميلي أذنك كل مجد ابنة الملك من داخل يدخلن إلى هيكل الملك" (مز44: 10- 15) أنها تشير إلى الكنيسة، وأيضًا إلى نفس المؤمن التي تتشبه بالسيدة العذراء، ويربط ذلك بمحبوبة سفر النشيد. كما أنه يعتبر "الثياب الموشاه بالذهب" أنها هي تعاليم الكنيسة، فيقول: "هكذا تقف الملكة، العروس المتحدة بالعريس الكلمة الإلهي، التي لا تملك الخطية عليها بعد، بل إنها تشارك في ملكوت المسيح. إنها عن يمين المخلِّص، بثياب موشاه بالذهب، أي التعاليم العديدة المنسوجة بالمعرفة الروحية".

ورغم أن آباء القرون الأولى لم يشيروا إلى الملكة في مزمور 44 بأنها هي السيدة العذراء؛ إلا أن الكنيسة اليونانية تعتبرها هكذا في ألحان عيد دخول العذراء إلى الهيكل لتكريس حياتها للرب، فتقول مثلاً: "أيتها العذارى حاملات المصابيح ابتهجن اليوم وابدأن في التلحين؛ أيتها الأُمهات رافقنهن في التماجيد للملكة والأُم عند دخولها إلى هيكل المسيح الملك". وأيضًا: "قد رآك الأنبياء برؤيتهم الإلهية من على بُعد وأخبروا عنك مسبقًا أنك أنت آنية وعصا (هارون)، ولوح العهد الذي كتبه الله، والفلك، والمائدة، والمنارة الذهبية، والسُلّم، والقصر (بيت الملك)، والجبل المقدس، ومحفة سليمان، والخيمة المقدسة، والقنطرة (أو الكوبري) التي تقود من الأرض إلى السماء، إننا نرى هذه الصور الرمزية محققةً تمامًا فيكِ أيتها العذراء الطاهرة، ونعلن أمومتك الإلهية.
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: أيضًا في فقرة رائعة بخصوص تلك الآية: "إن الرب في الحقيقة عندما جاء لم يُحدث أية ضجة أو تشويش، فهو لم يزعزع الأرض ولا قذف بصواعق أو حرك السماوات، ولم يكن مصحوبًا بجوقات من الملائكة ولا شقّ جَلَد السماء ونزل من السحاب؛ بل إنه دون أن يصوِّت أمامه بالبوق حمله رحم فتاة مدة تسعة شهور ووُلد في مذود مثل ابن حرفي (نجار (".

فكنيستنا القبطية تكرم السيدة العذراء الإكرام اللائق بها دون مبالغة أو إقلال من شأنها. فهي القديسة المكرمة والدة الإله المطوبة من السمائيين والأرضيين، دائمة البتولية العذراء كل حين، الشفيعة المؤتمنة والمعينة، السماء الثانية الجسدانية أم النور الحقيقي التي ولدت مخلص العالم ربنا يسوع المسيح. فالعذراء هي: " الحكمة ابتنت لها بيتًا ودعمته بسبعة أعمدة وذبحت ذبائحها، ومزجت في كاس خمرها وأعدت مائدتها وأرسلت عبيدها ينادون بأعالي الصوت: من كان جاهلاً فليجنح إلي... " ألا نرى هنا صورة الكنيسة نفسها تنطبق على العذراء؟ وخصوصًا في "يا من بها جميع تراب البشر قد أعيدت جبلته جسدا لله".

القديسة مريم العذراء هي الإنسانة الوحيدة التي انتظر الله آلاف السنين حتى وجدها ورآها مستحقة لهذا الشرف العظيم "التجسد الإلهي" الشرف الذي شرحه الملاك جبرائيل بقوله "الروح القدس يحل عليكِ وقوة العلىّ تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منكِ يدعى ابن الله" (لوقا 35: 1). لهذا قال عنها الكتاب المقدس "بنات كثيرات عملن فضلاً أما أنت ففقتِ عليهن جميعاً " (أمثال 29: 31).

القديسة مريم العذراء " كرامتها تفوق العقول وهي حية على الدوام مع ابنها اللابس الحياة "، " انتقلت بتمجيد وبحال تفوق الوصف على يدي ابنها وسيدها ". هي كانت في فكر الله وفي تدبيره منذ البدء، ففي الخلاص الذي وعد به آدم وحواء قال لهما "أن نسل المرأة يسحق رأس الحية" (تكوين 15: 3) هذه المرأة هي العذراء ونسلها هو المسيح الذي سحق رأس الحية على الصليب.

القديسة مريم العذراء تحظى بمكانة عظمى في قلب معظم الذين انتسبوا إلى المسيح المخلّص، ولها في قلوبهم محبة كبيرة. غير أن هذا لا يمنع القول إن مسيحيّ العالم _ وإن قالوا، على العموم، قولاً واحدًا في حقيقة تجسد ابن الله الوحيد_ لا يتفقوا في وصف مريم وتكريمها، ولا في تحديد مساهمتها في خدمة السرّ "الذي قبل الدهور". فهي فخر الجنس البشري عامة، بعد أن حل عليها الروح القدس وطهرها فحملت المسيح وولدته، ثم حل عليها الروح القدس مع التلاميذ في العلية في يوم الخمسين هي فخر العذارى والمتبتلين، هي فخر الطهارة والبتولية والعفة، ينسج على منوالها ويقتدي بسيرتها كل من يريد أن يعيش بتولا وكل فتاة تريد أن تحيا عذراء تأخذ سيرة حياة العذراء قدوة صالحة ونبراسًا منيرًا، ينير لها الطريق ويخفف عنها معاناة الجهاد.

القديسة مريم العذراء تكرم كأم الإله تكريمًا يفوق كل كرامة لأي ملاك أو رئيس ملائكة وفوق الشاروبيم والسارافيم أيضًا، ولكن تكريمنا لها يحدده قولها " هوذا أنا أمة الرب " فهي في تقليدنا عبده وأمة خاضعة لسلطان الله، فكأم الإله نكرمها ونعظمها جدًا ونتشفع بها، وكإنسانة لا يمكن أن نعبدها، بينما كان الرسل يهتمون بجسدها كانت الملائكة تقول بعضها للبعض الآخر: " ارفعوا أبوابكم وتقبلوا والدة صانع السماء والأرض، لأنك انتقلت إلى الحياة بما أنك أم الحياة ".

القديسة مريم العذراء تمجد لا كملكة السماء تجلس بمفردها. ولكن كملكة تقف عن يمين الملك "قامت الملكة عن يمين الملك “؛ حيث الوقوف لا يؤهلها للمساوة كما في حالة المسيح حينما جلس عن يمين ابيه. وتُرسم في الأيقونة القبطية حاملة للمسيح على ذراعها الأيسر *قامت الملكة عن يمين الملك* ولا تقبل الكنيسة أن تقدم تمجيدًا للعذراء بشخصها بمفرده، ولكن تمجدها كعذراء وكأم معًا.

إن مجد أم الإله مكتسب بسبب أمومتها للرب يسوع، وليس طبيعيًّا لذلك لا نقدمه لها في شكل عبادة وإنما في صورة تكريم فائقة، فتقدم البخور لله أمام أيقونة مريم العذراء الحاملة يسوع المسيح لأن مريم أصبحت هي الهيكل الجديد الذي احتوى الحمل المقدس المعد للذبيحة، لذلك أصبح لائقًا أن يقدم أمامها بخور لله لكي تشفعه هي بصلواتها عنا، فيرفع البخور أمام الله حاملاً صلواتها وصلواتنا، وبما أنها صارت أم الإله المتجسّد, فقد أصبحت أيضًا أمًا لكل الذين صار ذاك الإله أخا لهم بالتجسد: "لأن الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً. فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا" (عبرانيين 2: 11-14)". إن نصيب مريم في استعلان المجد العتيد سيكون غير منفصل عن جسد المسيح الذي سيجمع البشرية كلها معًا كإنسان كامل رأسه المسيح، غير أن نصيبها سيكون فائقًا بالضرورة وعلى كل وجه إنما غير منفصل عنا.

يجد اسم "والدة الإله" جذوره في الكتاب المقدس، ولا سيما في قول أليصابات وهي حامل بيوحنا المعمدان، حين زارتها مريم نسيبتها وهي حامل بيسوع: "من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ" (لوقا 1: 43)، فيسوع المسيح هو "الرب"، فإذا كان المسيح هو الرب، فأم الرب هي "والدة الإله".

إن أول شهادة لاستعمال لقب "والدة الإله" قبل مجمع أفسس نجدها في رسالة ألكسندروس أسقف الإسكندرية حول مجمع المنعقد في الإسكندرية سنة 320 للحكم على بدعة أريوس: "بعد هذا تناولنا عقيدة القيامة من بين الأموات التي صار فيها ربنا يسوع المسيح باكورة الثمار فقد لبس في الحقيقة لا في المظهر جسدًا اتخذه من مريم والدة الإله". إلا أن هناك صلاة تتوجه إلى مريم العذراء بهذا اللقب، ويبدو أنها تعود إلى نهاية القرن الثالث: "يا والدة الإله، لقد لجأنا إلى حنانك، فلا تعرضي عن ابتهالاتنا في المحن، بل نجّينا من الخاطر، يا من هي وحدها نقية ومباركة".