الأنبا إرميا
بدأت المقالة السابقة الحديث عن الرهبنة التى عُرفت أولا على أرض «مِصر»، ثم منها امتدت إلى سائر بقاع العالم. وكما ذكرَت، فإن القديس «أنبا أنطونيوس» (٢٥١-٣٥٦م)، الذى نحتفل بعيد نياحته فى الثانى والعشرين من طوبة (الموافق ١/٣٠)، هو أب الرهبان وأول من أسس نظام الرهبنة فى العالم، هذا على الرغم ممن سبقه فى حياة التوحد؛ لذا أطلق عليه اسم «كوكب البرّية».

وقد كتب القديس «البابا أثناسيوس الرسولى» (العشرون فى بطاركة الإسكندرية)، سيرة «أنبا أنطونيوس» بعد أن نهل من التلمذة على يديه، مستهلاً: ««أثناسيوس» الأسقف، إلى الإخوة فى الأرجاء الأجنبية: لقد دخلتم فى منافسة شريفة مع رهبان «مِصر» بعزمكم إما على مساواتهم، أو التفوق عليهم فى التدريب على طريق الفضيلة. إذ توجد الآن لديكم أديرة.. ونظرًا إلى أنكم طلبتم منى أن أقدم لكم وصفًا عن طريق حياة «أنطونيوس» المباركة، ولأنكم تريدون أن تعرِفوا كيف بدأ نسكه.. فإننى قد قبِلت تحقيق رغبتكم.. عما أعرفه أنا شخصيًّا إذ رأيت «أنطونيوس» مرارًا، وعما استطعت أن أتعلمه منه لأننى لازمته طويلا، وسكبت ماءً على يديه».

وُلد «أنطونيوس» بصَعيد «مِصر»، فى قرية «قمن العروس» بمركز الواسطى بمحافظة بنى سويف، فى يناير ٢٥١م، من والدين قبطيين ثريين، محبين لله، عُرف عنهما بمحبتهما للفقراء، ربياه هو وأخته التى تصغره فى مخافة الله. وحين تُوفى والد «أنطونيوس»، وقف أمام الجثمان متأملا فى أمر زوال العالم، قائلا فى نفسه: «إن كنت قد خرجتَ أنت (يا أبى) بغير اختيارك، فلا أعجبن من ذلك، بل أعجب أنا من نفسى أن عمِلت كعملك». وبدأ «أنطونيوس» يكثر من التأمل فى أمجاد الحياة الآتية الأبدية وانقضاء العالم، وفى حياة الآباء الرسل الذين تركوا كل شيء وتبِعوا السيد المسيح. ثم حدث أن دخل «أنطونيوس» الكنيسة كعادته، فسمِع كلمات السيد المسيح فى الإنجيل: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِى السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِى»؛ فتأثر قلبه واعتبر كلمات الوصية رسالةً شخصيةً موجهةً إليه، ورجَع إلى بيته ونفسه تمتلئ عزمًا أكيدًا على تنفيذها؛ وسرعان ما وزع على الفقراء إرثه من والديه، مالا وعقارًا وأراضى، منها ثلاث مئة فدان من أجودها، واحتفظ لشقيقته بما يكفيها من أموال. ثم كان أن دخل الكنيسة، فسمع كلمات السيد المسيح: «لَا تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ»، فلوقته أسرع بتوزيع ما تبقى من أموال على المعوزين، وأودع أخته بيتًا للعذارى التقيات لتنشأ فيه.

أما «أنطونيوس» فقد انفرد فى حياة نسك خارج قريته، مسترشدًا ببعض المتوحدين إذ لم تكُن أديرة فى مصر بعد. وكان فى القرية المجاورة شيخ ناسك منذ شبابه، فقصده «أنطونيوس» واقتدى به فى حياة النسك. وكان كلما سمِع عن ناسك فاضل فى أيّ مكان، ذهب إليه مشتاقًا رؤيته والتعلم من فضائله. وكان يعمل بيديه تنفيذًا لكلمات الكتاب: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلَا يَأْكُلْ أَيْضًا»؛ وكان ينفق جزءًا من ماله على قُوته، ويعطى الفقراء الجزء الآخر. وعاش حياته مثابرًا فى الصلوات، ساهرًا على اقتناء الفضائل، حتى أحبه الناس وصاروا يدعونه «حبيب الله».

ثم خرج الناسك «أنطونيوس» إلى البرية الداخلية حيث انفرد فى حصن مهجور، ولم يخرج منه أو يرى وجه إنسان قط، حتى إن كل من أتى إليه كان يقف خارجًا ويستمع وعظه وإرشاده. وكان يتلقى طعامه من خبز ومِلح كل ستة أشهر. وهكذا ظل ٢٠ عامًا فى حياة الوَحدة. وفى تلك الأثناء، انتشرت رائحة حياته الذكية حتى جذبت كثيرًا من الشبان إلى ترك العالم والعيش فى حياة الوحدة والتعبد لله، فأقيمت الصوامع فى الجبال وعمرت الصحراء بالرهبان؛ وكان «القديس أنطونيوس» يخرج لزيارتهم وتفقدهم إذ صار أباهم ومرشدهم؛ وعمّر لهم أديرة وسنّ لهم قوانين لحياتهم الرهبانية، حيث كان كل راهب أو ناسك منهم يقضِّى فى قلايته خمسة أيام أسبوعيًّا، ويجتمعون كلهم السبوت والآحاد والأعياد فى ديرهم المجاور لأماكن إقامتهم، للاشتراك فى صلوات القداس.

وقد مرت بالقديس تجارب وصعاب وحروب شيطانية كثيرة حاولت صرفه عن طريق النسك والالتصاق بالله، لٰكنه انتصر فيها بمعونة الله وقوته. وقد منحه الله موهبة شفاء المرضى، فقصده الناس من كل مكان، فكان يعظهم، ويصلى لأجلهم فينالون شفاء النفس والجسد. وقد ترك «أنبا أنطونيوس» مغارته ونزل إلى الإسكندرية مرتين: الأولى سنة ٣١١م أثناء الاضطهادات رغبة منه فى أن يصير أن شهيدًا للسيد المسيح لكن الله شاء أن يحفظه وعاد إلى ديره سالمًا، والثانية سنة ٣٥٥م حين انبرى يدافع عن الإيمان المستقيم أمام اضطهاد الأريوسيين فتحمل عذابًا أليمًا لكن الله حفِظه بسلام.

وحين سمحت إرادة الله، أتت «أنبا أنطونيوس» فرصة عظيمة للتبرك بالقديس «أنبا بولا» أول السواح، حين زاره فى مغارة توحده بالبرية الجوانية. ولما شعر القديس «أنبا انطونيوس» بدنو أجله، جمع تلاميذه الرهبان ووعظهم، وأوصاهم أن يواروا جسده التراب بعد انتقاله من العالم، ثم رقد فى الرب بعد أن تجاوز المئة بخمسة أعوام. وللقديس «أنبا أنطونيوس» كثير من الأقوال والتعاليم، منها: «إياك والكذب! فهو يطرد خوف الله من الإنسان!!»، وقوله: «فكِّر فى كل يوم أنه آخِر ما بقى لك فى العالم، فإن ذٰلك ينقذك من الخطيئة».

أما «القديس أنبا بولا» فللحديث بقية، وما زال الحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.

* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم