( بقلم / أشرف ونيس) .
سارت الروح مسرعة صاحبة معها قدمى جسد ، إلى نقاء بحر ، وصفاء كون ، وسكون ريح ، باتت العين ترنو إلى مآل تبحث فيه عن وجود لها ، تشخص إلى ملجأ فيه تستريح من شقاء دام وسط زخم الطرق وصخبها ، بات الكيان فى حِراك عنيف وقد بغى التخلص من محيط هو مرجل فائر ، آثرت الروح الهروب من عجيج لمركبات هى بارعة فى قتل الهدوء و السكينة .
وبعد ساعات من بحث أضنى قلوبنا ، تهتدى العين إلى وجه قمر وقد عكس وجهه الوضَّاح فى خرير ماء ذا موج متلألئ ، يموج بلا توقف فتتغير من عليه ملامح القديم إلى جديد ، يصحب معه كل شيء عليه فلا يبقى إلا وجه ذا القمر وقد رسخ آبيَّا التزحزح آخذا من ثباته منهاجا له ، تمر عليه سفن ذهابًا و إيابًا فلا تغير منه ولا تنتقص فيه شيئًا ولا تؤثر فى ملامحه ، يبقى عاكسا ضياء وجهه فلا تعتريه أو تشوبه أى شائبة !
حدقت العين بثبات على وجه قمر الليل المنير وقد تخلت الروح عن كل منظر سواه ، ساد الصمت كافة مناحي محيطنا ، وبات السكوت هو سيد الأمر ، لا منازع له سوى تموُّج مياه ينساب فى همس وقد شق دروبه فى طمأنينة ، فلقد اختفت المركبات بضجيجها ، وتوارى البشر بجياشهم ، كما فر الضوضاء بهياجه !!!
وفيما يحتضن الكيان فراغًا لكل شيء ، إذ بالذهن يقطع الصمت ليملأ بعضا من خلاء ، وهنا تحضر الذاكرة لتكون ضيفًا ثقيلاً على الكل ، تأتى لتتسلط ولا يوجد من يقوى على وجودها ، تفرض سيطرتها على المكان والزمان ، تنشب خدامها من أفكار عدة على مسرح الذات ، أفكار تحوى عنصر الزمن بأقطابه الثلاثة من ماضٍ وحاضر ومستقبل ، كما إنها لا تعترف بمسافات ، فهى لا تقطع وسطًا لتجوب فى مسرح المعرفة كيفما وأينما ووقتما شاءت ، ولا يوجد من يستطيع أن يوجهها سوى الإرادة متى امتلكناها حق امتلاك !
أخذت أفكارنا من الذهن مسرحًا لها ، تجوب و تجول دون قيد أو أغلال ، باءت كل محاولة منا بالفشل لوقف سيل منها ، وها هى تعرض علينا أزمنة شتى فى فصول شتى ، قد تفرضها علينا تارة و أخرى نستحسن بعضا منها ، وبينما تستعرض قليلاً من قدرتها لتحجب عنا صورًا ، نراها وقد استعرضت صورًا أخرى فى عزم وإصرار .
رأينا ساعات كانت لنا سنوات كما سنوات كانت هى لنا بضع ساعات !
راقبنا أيامًا ذات شمس مشرقة وشاهدنا أخرى وقد أبَت فيها الشمس إلا الزيغان ، تراءى لنا فيها حبيب كنا نميل عليه وقت أن كانت تميل علينا دنيانا ، و شعرنا ب أياد كانت تربت على أكتافنا كانت هى لنا كل الخلق و البشر و الأنام ،
أبصرنا وجها منيرًا و عيونًا ضعيفة و شفاهًا كانت تنطق فنسمع أعذب الأحرف و الحديث الكلمات !
و تطلعنا لدعاء كان يتردد على مسامعنا كان يبدأ عنده أمل و امتداد لأعمار ،
تذكرنا أناسًا لم يكونوا أنصافا فحسب بل هم لنا كل الحنايا الأحشاء !
و سمعنا ضحكات و أدمع وبعضا من ابتسامات كانت يتوقف عندها التعبير فى شعر فى قصيدة فى أبيات !
عاينا لقاء ثم سلامًا فوداعًا هي لنا بدايات و انطلاقات ، فنهايات !
● وأخيرًا : -
وبعد وقت مر علينا كان دهرا طويلاً و إذ بالذهن يقطع الكل مجددًا ليخبرنا بأنه علينا الرحيل ، فلابد أن نستحضر الروح أينما كانت لندخل عالم الشقاء من جديد ، فنحن فى عالم تحكمه المادة ولابد من إيابنا اليه ، لنترك موج ماء و وجه قمر وسكون ليل فنرجع إلى حِراك عنيف و ضجيج أعنف وصخب كان قد شد من أزره كثيرًا ، ولكن على أمل أن نعود إلى نفس المكان لنطلق الروح من جديد لتذهب حيثما شاءت ، فتعود إلينا وهى صاحبة معها بعضًا منا .