القمص يوحنا نصيف
القدّيس كيرلّس الكبير له شرح مطوّل وجميل لهذه الآية، يُسعِدني أن أُقَدّم في هذا المقال بعض المقتطفات منه:
+ اليهود، حينما كانوا يُعانون من البؤس، كانوا يتذمّرون جدًّا، وكأنّهم كانوا يُعانون فقط بسبب عدم تقوى أجدادهم؛ أو كما لو أنّ الله كان يضع عليهم خطايا آبائهم بطريقة غير معقولة.. إنّهم يستغرقون في جهلهم الخاصّ بهذا الأمر، بافتراضهم أنّ خطايا الآباء تأتي حقًّا على الأبناء، وأنّ الغضب الإلهي يمتدّ حتّى يُمكِن أن يَصِلَ إلى الجيل الثالث والرابع، ليعاقِب الأبرياء بعقوبات جرائم الآخَرين!
+ لو كانوا حكماء، ألا يكون لائقًا بهم -بالأحرَى- أن يَعتَنِقوا الرأي الذي يقول أنّ الله الذي هو مصدر البِرّ ومصدر قوانيننا الأخلاقيّة، لا يُمكِن أن يَفعَل شيئًا مُخجِلاً كهذا؛ لأنّه حتّى الناس يُعاقِبون العُصاة بحسب القوانين، ولكنّهم لا يُوَقِّعون هذه العقوبات على أولادهم، إلاّ إن كان هؤلاء الأولاد مشتَرِكين مع آبائهم في الأفعال الشرّيرة. فذلك الذي وَصَفَ لنا قوانين كلّ عَدل، كيف يمكن أن يُقال عنه أنّه يُوَقِّع عقوبات تُعتَبَر عندنا مُدانَةً بشدّة (لأنّها غير عادلة)؟
+ إنّ الله أعطى بفم موسى نواميس لا تُحصَى.. ولكن لا يوجَد فيها أيّة وصيّة أنّ الأولاد يتحمّلون عقوبات خطايا والديهم، لأنّ العقوبة هي للذين يُخطِئون. وقد أوصَى أنّه من المناسب أن يُعاقَب فقط أولئك الذين يتعدّون الناموس، لذلك فإنّه من عدم التقوى أن نُفَكِّر كما يُفَكِّر اليهود.
+ دعنا نتمسَّك بالفِكر الصائب؛ أنّ إله الكلّ -في رحمته الطبيعيّة- يُريدنا أن نُقَدِّر محبّته النقيّة للبشر؛ ولهذه الغاية فهو يُعلِن أنّ "الربّ طويل الروح كثير الإحسان، يغفر الذنب والسيّئة" (عد14: 18).. كيف يكون هو طويل الروح وكثير الرحمة، أو كيف يغفر المعاصي والخطايا، إن كان لا يستطيع أن يجعل العقوبة محصورة فقط في الشخص الذي أخطأ؟!
+ هو لا يُعاقِب الابن عِوَضًا عن الأب؛ لا تُفَكِّروا هكذا. كما أنّه لا يَضَع ثقلَ خطايا الآباء على أبنائهم.. هذا من السهل أن نتعلّمه، من تلك الكلمات التي قالها الله بوضوح لليهود بصوت حزقيال النبيّ.. "ما لكم تضربون هذا المَثَل على أرض إسرائيل قائلين: الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرسَتْ. حيٌّ أنا يقول السيّد الربّ: لا يكون لكم مِن بَعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل. ها كلّ النفوس هي لي؛ نفس الأب كنفس الابن، كلاهما لي. النفس التي تُخطئ هي التي تموت.. الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن. وكلّ واحد يموت في شرّه الذي أخطأ به" (حز18).
+ "لكن لتظهَر أعمال الله فيه".. سبق أن أوضحنا أنّ الله لا يَجلِب خطايا الآباء على الأبناء، ما لم يكونوا مُشاركين لهم في شرّهم.. فبعد أنّ علّم تلاميذه بكلّ ما هو ضروريّ لهم أن يعرفوه.. بمهارة عظيمة ينقل لُغة جوابه إلى شيء آخَر ويقول: "لكن لتظهر أعمال الله فيه".
+ هل يقول أحدٌ إذن: أنّ الربّ يُعلِن لنا هذه الكلمات هُنا كعقيدة؟ وكأنّه لهذا السبّب وحده تُصيب الأمراض أجساد الناس، أي لكي تظهَر أعمال الله فيهم؟! لا يبدو الأمر هكذا بالمرّة بالنسبة لي، بل بالحريّ إنّه مُنافٍ للعقل أن نتصوّر أو نفترض هذا.. لأنّنا تعلّمنا كثيرًا من الكتب المقدّسة أنّ البعض يَمرَضون بسبب خطاياهم. فبولس يكتب بوضوح.. (1كو11: 30-32).
+ حسب ذلك فإنّ المرض والموت يَحدُثانِ أحيانًا من الغضب الإلهي، بل وربّنا يسوع المسيح نفسه بعد أن شفى المفلوج من مرضٍ طويل، وجعله صحيحًا بطريقة إعجازيّة، قال له: "ها أنت قد برئتَ، فلا تُخطئ أيضًا، لئلاّ يكون لك أشرّ" (يو5: 14).. ولكن إن لم تَكُنْ هناك خطيّة سابقة على الألم، فما هو سبب الألم إذن؟ حقيقةً، لا نستطيع أن نُدرِك بعقولنا تلك الأمور التي تعلو فوقنا جدًّا.
+ ينبغي أن نعترف بتقوى أنّ الله وحده يعرف هذه الأمور، بكيفيّة تخصّه هو وممتازة، وفي نفس الوقت ينبغي أن نؤكِّد ونؤمن أنّه بما أنّه ينبوع كلّ بِرّ، فهو لن يفعَل شيئًا، ولن يُقَرِّر شيئًا في شؤون البشَر، أو في أمور باقي الخليقة، يكون غير لائق بذاته، أو يتعارض بأيّ حال مع الاستقامة الحقيقيّة للبِرّ.
[عن تفسير إنجيل يوحنّا للقدّيس كيرلّس السكندري (الأصحاح 9) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد وآخرون]
القمص يوحنا نصيف