القمص يوحنا نصيف
    أحيانًا يقول لي البعض، بسبب ضيقات يتعرّضون لها: "أنا زعلان من ربّنا"!

    وهُم في هذا الوضع يتوقّفون عن الصلاة، وقراءة الإنجيل، وفي بعض الأحيان يمتنعون أيضًا عن الذهاب للكنيسة والتناول من الأسرار المقدّسة؛ وقد يمتدّ هذا الوضع لأسابيع وشهور وسنوات طويلة!

    الحقيقة أنّ طريقة التفكير هذه، هي طريقة عقيمة وغير مُجدِية، بل وخاطئة تمامًا ومؤذية.. فالله هو صديقنا وطبيبنا ومعيننا؛ فكيف يقول المريض -مثلاً- أنّه بسبب وجع المَرَض "زعلان" من الطبيب، وسيبتعد عنه ولا يريد أن يتعامل معه، أو يتناول الأدوية التي وصفها له، ولن يذهب إلى أيّ مستشفى؟! بالتأكيد هذا ضدّ المنطق والعقل السليم.

    الله هو محبّ البشر، وصانع الخيرات، وهو دائمًا في صَفِّنا، وليس عدوًّا لنا حتّى نخاصمه، أو نتّهمه بالإهمال في حقّنا!

    الشرور تأتي من عدو الخير، وليس من الله؛ جميع المتاعب والمظالم والآلام والصراعات والدمار والحروب، مصدرها هو الشيطان. أمّا كلّ العطايا الصالحة والمواهِب والخيرات، فمصدرها هو الله (يع1: 17). لذلك فإنْ كان عدو الخير يُحَرّك بعض الضعفاء ضدّنا، أو يتسبّب في ضيقات وأحداث مؤذية لنا، فالله ضابط الكلّ هو ملجأنا في مثل هذه الضيقات، وهو ينبوع تعزيتنا وسندنا وقوّتنا، وهو قادر أن يحوّل كلّ الأمور لخيرنا وبنياننا وتقديسنا..

    إنّ مَن يتّخذ اتّجاه الابتعاد عن الله، بحجّة أنّه سمح بحدوث كلّ هذه الأتعاب له، فهو يخسر مساعدة أعظم صديق؛ لأنّ الله هو صديقنا الجميل المُحِب الأمين. وأيضًا مثل هذا السلوك يكشف أنّ ذلك الإنسان غير مُدرِك أنّه ربّما تكون هذه الأتعاب هي ثمرة أخطاء شخصيّة له، أو نتيجة حسد من الشيطان وأعوانه (2كو12: 7)، أو ربّما هي امتحانات سمح بها الله لتنقيته وتزكيته في الإيمان (يع1: 2-12)، أو للارتقاء بقامتِهِ الروحيّة وقداستِهِ وسلامِهِ (عب12: 6-11)!

    عندما أسمع من أيّ شخص عبارة: "أنا زعلان من ربّنا"، أتذكَّر على الفور اللافتة الحمراء التحذيريّة الموجود في مدخل بعض الطرق، والتي تُقول أنّ الدخول في هذا الطريق هو خطأ "Wrong Way"، إذ أنّ السيّارات آتِية في الاتّجاه المضاد، ومِن الخطر جدًّا الدخول في هذا الطريق، لأنّ هذا سيُعرّضنا لتصادُم مُرَوِّع وجهًا لوجه!

    هكذا مَن يدخُل في طريق الغضب من الله ومقاطعته، فهو قد اختار الطريق الخطأ "Wrong Way" بكلّ تأكيد.. لأنّ الله ليس خصمًا لنا، وليس بظالم أبدًا.. بل بالحريّ هو ملجأنا الأمين، وأحضانه دائمًا مفتوحة للمُتعَبين والثّقيلي الأحمال لكي يريحهم (مت11: 28)، ويحمل معهم أثقالهم ويعزّيهم، ويخلّصهم من كلّ ضيقاتهم (إش63: 9)!

    ما أجمل هذه العبارة الموجودة في بداية المزمور رقم 45 الذي نصلّيه في الساعة الثالثة من صلوات الأجبية اليوميّة:
    "إلهنا ملجأنا وقوّتنا، ومعيننا في شدائدنا التي أصابتنا جدًّا".

    وبالمناسبة، فإنّ هذا المزمور مملوء بالثقة في محبّة الله وقوّته ورعايته، مهما كانت الأخطار محيطة بنا، أو كانت الشدائد قاسية وثقيلة.. لذلك، فإنّنا عندما نصلّي هذا المزمور، نُذَكِّر أنفسنا بأنّ أحضان إلهنا المفتوحة دائمًا هي ملجأنا الذي نحتمي به في كلّ ظروفنا أو شدائدنا الصعبة، بل هي الحِصن الحصين الذي نشعر فيه بالأمان ونتقوّى به.. كما يعلِّمنا الكتاب: "اسم الرب برج حصين يركض إليه الصِدِّيق ويتمنّع" (أم18: 10)، أي يَحصُل على مناعَةٍ.

    هذا هو الطريق الصحيح "Right Way" الذي ينبغي دائمًا أن نختاره، عندما تحيط بنا الشدائد والمخاطر؛ أن نهرب إلى الله بالصلاة، ونسرع إلى الصليب ونحتمي تحت ظلّ جناحيّ الربّ، فهو الذي وَصَفَ نفسه بالطائر الذي يجمع فراخَهُ تحت جناحيه (لو13: 34).. ونقول مع المرتِّل: أستظِلُّ بستر جناحيك.. بظلّ جناحيك أبتهج.. بظلّ جناحيك أعتصِمُ إلى أن يَعبُر الإثم (مز60، 62، 56)..

    إنّها حِيلة خبيثة من الشيطان؛ أنّه بعد أن يتسبّب في بعض المتاعب لأولاد الله، يحاوِل خداعهم بإقناعهم أنّ هذه الشدائد والمظالم سببها الله، وأنّها أتت من عنده، ولذلك فإنّ ردّ الفِعل المناسِب هو مخاصمته ومقاطعته.. وعندما يطيع البعض عدوّ الخير في تنفيذ هذه الفكرة، فإنّه يُسَيطِر عليهم تمامًا، ويَقتَنِصهم لإرادته (2تي2: 26)، ويَحرمهم من طلب المعونة والتعزية والإرشاد الإلهي أثناء الضيقات!

    من أجل هذا، على أولاد الله أن ينتبهوا لهذا الفخّ، ولا يُصَدّقوا أفكار عدو الخير التي يُلقِي بها في عقولهم، بل يضعوا رجاءهم باستمرار في الله، ويحفظوا علاقتهم به قويّة ونامية، شاكرين إيّاه في كلّ الظروف، واثقين من محبّته وحُسن تدبيره لحياتهم، مؤمنين بقدرته على إنقاذهم، وتحويل كلّ الأحداث -حتّى المؤلِمة منها- لخيرهم وخلاص نفوسهم.

القمص يوحنا نصيف
فبراير 2025م