د. منى نوال حلمى
الدولة المدنية الحديثة، أسسها محمد على باشا، ٤ مارس ١٧٦٩- ٢ أغسطس ١٨٤٩، بدأت فى التآكل، والتقلص من شدة الضربات المتتالية على رأسها، بشكل يومى.

ما كان يحلم به جنود الدولة الدينية، وما كانوا يمارسونه على استحياء، أصبح كما يقول المثل الشعبى: «على عينك يا تاجر»، ومَن لا يعجبه الأمر «يسيب البلد».

انتشر جنود الدولة الدينية، أخذوا مواقعهم، فى المؤسسات الثقافية، فى الحضانات والمدارس والجامعات، فى معارض الكتب، ومهرجانات الفنون، على واجهات المحال، فى الرقابة على السينما، مصادرة الكتب، تضخيم الاحتفالات بالمناسبات الدينية، الإسراف فى بناء الجوامع والمساجد وتزويدها بمكبرات الصوت، الحجاب للمرأة، والأطفال الإناث، تزويج القاصرات. أصبح الشيوخ ورجال الدين هم نجوم المجتمع، ومصدر مُرَحَّب به فى تفاصيل الحياة، رغم أن الدين لا يقر الوسطاء، أو الكهنوت. مَن ينتقد الخطاب الدينى السائد، أو ممارسات المؤسسات الدينية، يُتهم بازدراء الأديان، ويُكفر. والبرامج الدينية تصف اللادينى، الذى ترك الدين إلى الإلحاد، بأنه مريض نفسيًّا، مختل عقليًّا، تعرض لتجارب قاسية، قادته إلى هذا المصير، وأن التخلص منه واجب حتى لا ينشر الفساد، والفتن.

هذه الشكلية تفرخ كل يوم منتجات جديدة، تلتهم المزيد من جسد الدولة المدنية الحديثة، التى نعيش على خيراتها، منذ مئات السنوات.

فهناك، مؤخرًا، إلغاء مادة الفلسفة فى الثانوية العامة، والمطالبة بإعادة الكتاتيب، التى كانت توظفها البلاد لتحفيظ القرآن، وأساسيات القراءة والكتابة، على يد أحد الشيوخ، ثم اعتماد إدراج الدين فى المجموع كمادة أساسية منذ الصف الأول الابتدائى حتى تسود مكارم الأخلاق. والآن يفكرون فى تعريب الطب.

وقبل ذلك، قدم هؤلاء بول البعير للتداوى والشفاء من الأمراض، وإرضاع الكبير، ونكاح الزوجة الميتة.

إطلاق النار من البعض على جسد الدولة المدنية الحديثة فى مصر طقس يومى، نصحو، وننام عليه، يشدنا مئات السنوات إلى الوراء. يقتحم البيوت دون استئذان، باستحقاق وإصرار، كأنه اشترى البيت بساكنيه، يرمى الأثاث المودرن فى الشارع، ويثبت بدلًا منه «عفشًا» قديمًا، متهالكًا، ترتع فيه الحشرات والقوارض والأفاعى السامة. إن زحف مظاهر وطقوس ولغة الدين إلى الفضاء العام يدل على أن الدين قد تحول من كونه «دينًا»، فى دُور العبادة، إلى «أيديولوجية»، مفتوحة الممارسات، منظومة متكاملة. ألَا يؤكد مصطلح «حزب الله» على أن

«الجهاد فى سبيل الله» هدف سياسى توسعى للحكم؟.

إرهاب سياسى، من الدرجة الأولى الفاخرة، مخطط له، منذ مئات السنوات، يرتدى قناع الدين، و«القداسة»، و«الفضيلة».

نجح جنود الدولة الدينية فى «غزو» العقول، وتأجيج مشاعر الإقصاء، والكراهية، لكل مَن «لا يتبعهم»، مستغلين الفراغ الفكرى والمعرفى للناس، وسحقهم بالفقر، وغياب الحد الأدنى للعدالة والحياة الكريمة.

وكالات الدعاية الدينية مدفوعة الأجر تروج دون توقف أن أزماتنا، ومشكلاتنا، وأمراضنا، وتأخرنا، بسبب «بُعدنا» عن ربنا، وأننا لسنا على الدين الصحيح.

وهكذا استطاعوا إخراج «الإخوانى والسلفى والداعشى»، الكامن فى النفوس، «اللى مش قادر يتعلم»، و«اللى مش لاقى ياكل»، و«اللى مش لاقى يتعالج»، و«اللى مش عارف يحب»، و«اللى مش لاقى يتجوز»، و«اللى مش لاقى شقة»، و«اللى مش قادر ينتقد ويتكلم»، و«اللى مش عارف يفرح»، و«اللى رغم موهبته» مش لاقى مكان تحت الشمس.

أعتقد أن الصراع بين الدولة الدينية، والدولة المدنية الوطنية الحديثة، أصبح الآن مكشوفًا، مرئيًّا، محسوسًا، مهددًا، مخيفًا، أكثر من ذى قبل. وأقول «الدولة الوطنية» لأن الدولة الدينية لا تعترف بالأوطان.

الدولة الدينية تقتل «المعلوم من المواطنة بالضرورة»، وتقوم بـ«ازدراء العلم»، تسب وتلعن «النساء»، تعادى «الفنون»، تجلد «البهجة»، ترجم «الآخر المختلف».

الدولة الدينية فى «عداء أصيل» مع «الحياة» ذاتها لأنها فى الحقيقة ثقافة للموت، وتمجيد القبور، والهرولة إلى الآخرة.

■ ■ ■

خِتامه شِعر
عندما أشد الترحال

إلى جزيرة العدم

لن يتساءل الناس

كيف تختفى تلك المرأة

هكذا بلا أثر؟

أول ملكة تحكم بالشِعر

وعدالة توزيع الخبز والفرح

حياتى حرث فى البحر

طال عمرى أو قصر

لم يهتم أحد

بقلبى الهادئ الحزين

يؤرقه الحرمان

يصحو على رنات مترددة

من الشوق والحلم والأنين

فى أزمنة الخيش

مَن يعانق قلبًا من حرير

يمنحه سر الوجود

بقى فى الذاكرة أو اندثر
نقلا عن المصرى اليوم