إسحق ابراهيم
رغم أن خطابات كبار المسؤولين في مصر لم تخلُ من الحديث عن إنشاء مفوضية المساواة ومنع التمييز، بالتزامن مع المداخلات والتوصيات التي قدمتها عدة دول إلى مصر خلال مراجعة سجلها الحقوقي في الاستعراض الدوري الشامل بمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة/UPR الشهر الماضي، فإن مؤسسات الدولة ما زالت تتقاعس عن إصدار قانون إنشاء المفوضية.
وتدَّعى الحكومة أنها تجهز مشروع قانون لإرساله إلى البرلمان في سياق اهتمامها بتعزيز حقوق الإنسان، لا سيما بعد إطلاق الاستراتجية الوطنية لحقوق الإنسان عام 2021، وتلبية لتوصيات المرحلة الأولى من الحوار الوطني الصادرة في أغسطس/آب 2023.
ومنذ اعتماد الدستور الحالي عام 2014، تعمل الحكومة على إجهاض أي محاولات مستقلة داخل البرلمان للتعاطي مع هذه القضية، في تجاهل تام للحاجة الملحة لهذا القانون وأهميته في ظل انتشار صور التمييز المختلفة ومعاناة أغلب المصريين منه بشكل أو بآخر؛ هذا يعاني بسبب دينه، وهذه بسبب جنسها، وهؤلاء لرأيهم السياسي أو مراكزهم الاجتماعية أو انتمائهم الجغرافي وهكذا.
تعتقد مؤسسات الحكم أن إصدارَ قانون للمساواة ومنع التمييز وإنشاء مفوضية مختصة بضمانه هبةٌ أو منحةٌ أو هديةٌ منها، فتقدمها متى شاءت ولمن شاءت أن تشمله بعطفها، في انتهاك صريح للدستور الذي يضمن هذه المساواة في عدة مواضع، بدايةً من مادته الأولى التي أكدت على رابط المواطنة باعتباره الأساس الذي يقوم عليه نظام الدولة المصرية، ثم التأكيد على مبدأين أساسيين؛ ضمان تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين في المادة التاسعة، والمساواة في الحقوق والواجبات والحريات العامة في المادة 53.
لا يقف النص في هذه المادة عند منع التمييز بين المواطنين أمام القانون، بل يُلزِم الدولة باتخاذ التدابير المختلفة لمنعه، وينشئ مفوضية مستقلة لهذا الغرض. ورد النص بكلمات قاطعة منها "تلتزم الدولة" وهي أقوى من "تكفل" أو "تُولي" الواردة في مواد أخرى، كما عددت المادة بعض أوجه التميز المحظورة مثل الجنس والنوع والدين والمكانة الاجتماعية والآراء السياسية، ثم أضافت "أي سبب آخر" لتسد الباب أمام أي تحايل على التطبيق.
في برلمان 2015، قدَّم عدد من النواب مشروعات قوانين إلى المجلس مستوفاة الشروط الشكلية والموضوعية، ونُوقش بعضها في اللجان المختصة، منها مشروع قانون المواطنة وعدم التمييز للنائب علاء عبد المنعم في مايو/أيار 2016، ووافق البرلمان عليه من حيث المبدأ، وأمهل مجلس النواب الحكومة حتى 14 نوفمبر/تشرين الثاني لتتقدم بمشروعها في هذا الشأن. ولم تتقدم الحكومة بمشروعاتها للمجلس، وأوعزت لعدد من النواب بسحب التوقيع على مشروع القانون من أجل إسقاطه وتحويله إلى لجنة المقترحات والشكاوى.
بطريقة مشابهة وُضعت مشروعات قوانين لإنشاء مفوضية المساواة ومنع التمييز من النائبتين الراحلتين أنيسة حسونة ومنى منير، والنائبة نادية هنري، في الأدراج، رغم بدء مناقشتها، وعملت الحكومة على تعطليها بحجة إعدادها مشروع قانون متكاملًا، لم ير النور إلى الآن.
ومع قرب انتهاء دورة البرلمان الحالي، لم تقدم الحكومة أي مشروع للقانون حتى الوقت الحاضر، ولم يتصدَّ أيٌّ من النواب لهذه القضية، ولا حتى المطالبة بإعادة مناقشة مشروعات القوانين السابقة، وكأن البرلمان يعمل كهيئة سكرتارية لدى الحكومة، تقرر له متى يضطلع بدوره ومتى يتوقف عن ذلك.
إذن نحن أمام معضلة برلمان لا يمارس دوره التشريعي أو الرقابي على الحكومة، وحكومة تدَّعي منذ عشر سنوات عزمها تقديم مشروع القانون دون أن تفعل أو حتى تعلن مضمونه، رغم موافقة الرئيس السيسي على توصيات الحوار الوطني الذي وضع القضية على أجندته، وخصَّص لها أول جلسة نقاشية لما تتمتع به من إجماع وعدم وجود خلافات جوهرية بشأنها.
ومن واقع مشاركتي بالجلسة، قدَّم غالبية المشاركين، على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية والثقافية والاجتماعية، بانوراما شاملة لأوجه التمييز المختلفة في مصر ومشروعات قوانين للمساواة ومفوضية منع التمييز، إذ لا يخفى على أحد حجم التمييز الذي تتعرض لها الفئات الضعيفة والمهمشة، التي لا تجد طريقةً واضحةً لجبر الضرر.
.. وحضر المجتمع المدني
من ناحية أخرى، أدركت بعض مؤسسات المجتمع المدني المستقلة أهمية هذا القانون منذ فترة طويلة، بل إن النص عليه في دستور 2014 جاء تتويجًا لجهودها.
فبعض المنظمات، من بينها مصريون ضد التمييز الديني، والاتحاد النوعي لنساء مصر، قدمت مشروعات قوانين تتفق في بعض جوانبها وتختلف في جوانب أخرى، لكنها تضمن اشتباكًا إيجابيًا، يمكن أن يساهم في إيجاد أرضية مشتركة ومسار تفاعلي لإصدار هذا القانون.
وفي السياق، أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية دراسة "نحو قانون للمساواة ومنع التمييز في مصر: المعايير والمبادئ التوجيهية" للباحثة في القانون الدولي لحقوق الإنسان نورهان فهمي والدكتور عمرو عبد الرحمن مدير وحدة الحريات المدنية، تتضمن مقترحات بمعايير تفصيلية يجب على التشريع المزمع إصداره الالتزام بها، كما تتضمن عددًا من المبادئ التوجيهية التي يجب أن تُلهِم مضمون مواده.
نقطة الانطلاق الأساسية أن المطلوب ليس آليةً لتلقي الشكاوى أو مجلسًا يشبه المجلس القومي لحقوق الإنسان والمجلس القومي للمرأة وغيرهما من المجالس التابعة التي لا تملك صلاحيات حقيقية، وتأتي تقاريرها في الغالب على هوى السلطة الحاكمة، ووفقًا لأجندتها.
والتجارب الدولية واضحة في هذا الخصوص، من وجوب وضع تشريع للمساواة ومنع التمييز وفي الوقت نفسه إنشاء مفوضية أو آلية لتحقيق مضمونه. يضمن التشريع سبل متابعة التزام مؤسسات الدولة أو المؤسسات الخاصة بنصوصه، وإعلان نتائجها للرأي العام، كذلك مراجعة التشريعات الحالية، التي تتضمن بعضها نصوصًا تمييزية فجة مثل قوانين الأحوال الشخصية والعقوبات والتعيين في الوظائف العامة وتنظيم دور العبادة، وتقديم مقترحات للجهات التشريعية من أجل تصحيحها.
إضافة إلى ما سبق، يمتد دور هذه المفوضية إلى تقديم الرأي الاستشاري بشأن إدماج مبادئ المساواة ومنع التمييز في جميع السياسات والقوانين واللوائح الإدارية الوطنية والمحلية في جميع المؤسسات العامة والخاصة، ومتابعة احترام التشريعات الجديدة لمعايير المساواة الواردة في نصوص الدستور أو المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ونشر ثقافة المساواة للجمهور، وضمان الامتثال لجميع المعاهدات والاتفاقيات التي صدَّقت عليها مصر فيما يتعلق بقضايا المساواة والتحرر من التمييز.
واقترحت الدراسة الصادرة عن المبادرة المصرية 11 معيارًا يجب توفرها في قانون المساواة ومنع التمييز، يأتي في مقدمتها وجوب وضع تعريف واضح وشامل للتمييز وكل الأفعال المحظورة التي يُنتظر أن ينص عليها التشريع، والإقرار بمسؤولية الدولة وغيرها من الفاعلين عن تحديد وإزالة العراقيل أمام الوصول إلى كل أشكال الخدمات والفرص والأماكن لكل الأفراد بدون تمييز.
وأن يُنصَّ على آليات إنفاذ فعالة، مع تحديد سبل إنصاف ضحايا التمييز، لا تقتصر على العقوبات الجنائية بل تشمل قواعد التعويض، وجبر الضرر، ورد الاعتبار، والاعتراف بما يقع على الضحايا من تمييز. وأن يكون عبء الإثبات في قضايا التمييز واقعًا على الطرف المتهم، أو المشكو في حقه، لإثبات عدم وقوع التمييز.
كما قدَّمت الدراسة معايير أخرى ضرورية لتحقيق الغرض من إنشاء المفوضية، من بينها تحديد المسار القانوني لاختيار الأعضاء، وأن تعبر في تشكيلها عن واقع التعددية في مصر، مع ضمان مشاركة المجموعات والأفراد المتعرضين للتمييز، ومن يعبِّرون عنهم ويدافعون عن حقوقهم. وأن يَضمن هذا التشريع بنصوص لا لبس فيها الاستقلالية التنظيمية والإدارية والمالية للمفوضية، بحيث تمتد أدوارها من تلقي الشكاوى والتحقيق فيها وجبر الضرر لضحايا التمييز، إلى مراجعة شاملة للتشريعات الحالية كافة، لتقييمها وطرح مقترحات تعديلها، كذلك الأخذ برأيها في التشريعات المزمع صدورها.
نقلا عن المنصة