كتب - محرر الاقباط متحدون
ترأس البطريرك الماروني، الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك لبنان، قداس في كاتدرائية مار جرجس المارونية في وسط بيروت بمناسبة عيد مار مارون، بحضور الرئيس جوزف عون رئيس لبنان.
وقال الراعي خلال العظة :" فخامة الرئيس، أعدتم لعيد أبينا القدّيس مارون، وهو عيد وطنيّ، رونقه بانتخابكم على رأس الدولة اللبنانيّة، بعد فراغٍ دام أكثر من سنتين في سدّة الرئاسة، فبانتخابكم، استعاد اللبنانيون الثقة بشخصكم، وعادت الثقة الى الدول العربية والغربية، وهي ثقة طال انتظارها، فأتت بعد طول انتظار.وازدادت بالأمس بتأليف الحكومة اللبنانيّة الجديدة الموصوفة "بالإصلاح والإنقاذ". فنهنّئكم، صاحب الفخامة، ونهنّئ دولة رئيسها القاضي نوّاف سلام، ونهنّئ الوزراء الجدد وجميعهم واعدون، متمنّين لها ولهم النجاح في المهام الكبيرة التي تنتظرهم، وقد جئتم على ذكرها في خطاب القسم. ولكون الحكومة من بركات مار مارون في عيده، نصلّي إليه كي يشفع بها لدى الله فتتمكّن من تنفيذ كلّ "إصلاح وإنقاذ". إنّنا نشكر الله، عزّ وجلّ، على أنّه حمى لبنان ويحميه بفضل صلوات شعبه وأنين الفقراء والمحرومين، ودم الشهداء الذي روى أرضه، والذي "يصرخ من الأرض إلى الله" (تك 3: 10).
فأحييكم، فخامة الرئيس، باسم سيادة راعي الأبرشيّة أخينا المطران بولس عبد الساتر وكهنة الأبرشيّة ورهبانها وراهباتها ومؤمنيها. ونحيّي اللبنانيّة الأولى ودولة رئيس مجلس النواب، ودولة رئيس الحكومة الجديدة، وأصحاب الغبطة والسيادة والفخامة والدولة والمعالي والسعادة وسائر الشخصيّات المحيطة بكم للصلاة في عيد أبينا القدّيس مارون، والتأمّل في فضائله، وما يقوله لنا في الظرف الحاضر.
"حبّة الحنطة التي تقع في الأرض وتموت" هي ربّنا يسوع المسيح بامتياز. فهو كحبّة حنطة مات على جبل الجلجلة وقام، فأعطى ثمرة الكنيسة بعنصريها الإلهيّ والإنسانيّ، وتبقى للأبد. وهي في العالم سرّ خلاص لكلّ إنسان. وهي أمّ ومعلّمة لجميع شعوب الأرض. تعلّم الحقيقة بحنان الأمّ وحزم المعلّمة.
والقدّيس مارون هو بمثابة حبّة حنطة ماتت سنة 410 على جبل قورش، بين أنطاكية وحلب، فوُلدت منه الكنيسة المارونيّة السريانيّة الإنطاكيّة، وتنظّمت في دير القدّيس مارون على العاصي في منطقة أفاميا، قلعة المضيق اليوم.
من هذا الدير انتشرت الكنيسة المارونيّة في جبل لبنان في القرن السادس. وفي نهايات القرن السابع نشأت بطريركيّة أنطاكية مستقلّة، تكوّنت هوّيتها ورسالتها بأنّها خلقيدونيّة، ذات طابع رهبانيّ، في شركة تامّة مع الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ، ومتجسّدة في بيئتها اللبنانيّة والمشرقيّة وفي بلدان الإنتشار (راجع المجمع البطريركيّ: هويّة الكنيسة المارونيّة ودعوتها ورسالتها).
تميّز القدّيس مارون بفضائل الحياة النسكيّة في العراء، في خيمة أقامها على أنقاض هيكلٍ وثنيّ، كان يلجأ إليها نادرًا، في منطقة جبل سمعان، في قلعة كالوتا في أبرشيّة قورش على مسافة 30 كلم من مدينة حلب. قضى حياته بالنسك والصلاة والتأمّل في كلام الله. وخصّه الله بنعمة الشفاء، فكانت الجماهير تأتيه من كلّ صوب وكان يشفيهم جسدًا ونفسًا وروحًا بدواء واحد هو الصلاة.
وتفجّرت منه كمن ينبوع روحانيّة إنجيليّة عميقة الجذور، وإيمان راسخ رسوخ الجبال، وشهادة مسيحيّة صافية كالنور، جعلت من الشعب المارونيّ المتواضع والمضطهد آيةً في الثبات على الإيمان المسيحيّ، والإنفتاح الحضاريّ، والوفاء الإنسانيّ والوطني.
وراحت حياة شعب مارون تصارع في الجهاد والصمود والقداسة، في لبنان الوعر المسالك والضيّق الرقعة، فإذا بتاريخ هذا الشعب يرتبط ارتباطًا عميقًا بتاريخ الأرض اللبنانيّة الجديدة التي تكوّن فيها قادمًا من سهول سوريا الخصبة، في أوائل القرن السادس. وليس لأحد أن يفهم روحانيّة الموارنة ومواقفهم التاريخيّة إلّا من خلال علاقتهم الوثيقة بالأرض اللبنانيّة التي سقاها الآباء والأجداد بعرقهم ودمهم وصلاتهم (راجع كتاب الصلاة: مار مارون، الصادر عن الكسليك 2010، ص 9-10).
ماذا يقول لنا اليوم القدّيس مارون في عيده الوطنيّ؟ بعد خبرة خمسين سنة من الـ حرب، وتقهقر اقتصاديّ وماليّ واجتماعيّ وثقافيّ وأخلاقيّ. يقول لنا:
وطني وطن القداسة، لا وطن الحديد والنار! وطني وطن المحبّة، لا وطن الأحقاد! وطني وطن السلام، لا وطن الحروب، وطني وطن الحضارة، لا وطن الإنحطاط! وطني وطن الإنفتاح، لا وطن الإنعزال!
أوقفوا التمادي في المماطلة! أوقفوا إسقاط السلطة القضائيّة! أوقفوا فقدان السيادة والكرامة! أوقفوا الإعتداء على الدستور والأزمة السياسيّة! لقد اختنق الشعب من الجمود، فقدّموا له حلًّا من حلول، وتسوية من تسويات، وحقيقة من حقائق.
إنّ الخطر الحقيقيّ الذي يواجه لبنان هو الإنزلاق في محور الإنحطاط. فبقدر ما يجب أن نبقى على الحياد الإيجابيّ تجاه المحاور الإقليميّة، يجب أن ننحاز إلى محور الحضارة والنهضة والرقيّ .
الحياد مطروح لإنقاذ وحدة لبنان أكثر مما لإنقاذ لبنان بحدّ ذاته. فلبنان باقٍ في جميع الأحوال، لكنّنا نريد أن يبقى لبناننا جميعًا، نحن المؤمنين به واحة سلام، وكيان لقاء، وقوّة دفع للإخوّة بين ضفّتي المتوسّط، وملتقىً تتجسّد فيه قيمُ الأديان. ليس الحياد مشروعًا مناقضًا للخصوصيّات والقناعات الذاتيّة المختلفة. فالحياد هو نظام وجود يحمي التعدّدية بكلّ أبعادها ويعطيها حقّ ممارسة اختلافها بحضارة وسلام.
الحياد هو أمن داخليّ، ودفاع خارجيّ. هكذا يعزز الحياد الثقة بين مختلف المكوّنات اللبنانيّة، لأنّه يوحّد ولاءها الوطنيّ والسياسيّ للبنان.
نصلّي إلى الله، بشفاعة القدّيس مارون، كي يمنحنا نعمة السير على خطاه في الزهد والصلاة، لمجده تعالى، آمين.