القمص يوحنا نصيف
    تثور حول أحداث قصّة يونان العديد من الأسئلة، لكنّي في هذا المقال أودّ فقط أن أناقش سؤالاً واحدًا عن ما جاء في الأصحاح الأخير من السِّفر، أنّ يونان قد اغتمّ غمًّا شديدًا واغتاظ، بعدما رأى أنّ الله قد صفح عن شعب نينوى عندما تابوا ورجعوا عن شرورهم. فلماذا يغتمّ نبيّ الله بسبب رحمة الله وحنانه ورأفته؟!

    + نلاحظ من البداية أنّ يونان لم يكُن راضيًا عن الذهاب لنينوى لكي ينادي عليهم بهلاكهم؛ ربّما لبُعد المسافة عن إسرائيل؛ وربّما أيضًا لأنّ هذا معناه -في نَظَرِهِ- أنّ الله قد بدأ يهتمّ بالأمم الأخرى على حساب شعبه إسرائيل، الذي كان يحيا في ذلك الوقت بعيدًا تمامًا عن العبادة النقيّة لله؛ وربّما أيضًا -بحسب ما ذَكَرَه يونان بنفسه (يون4: 2)- أنّ إنذاره بهلاك الشعب، لن يتحقّق فعليًّا، لأنّ الله رؤوف وكثير الرحمة، وسوف يسامحهم ولا يُهلِكهم إذا تابوا.

    + يلفت نظرنا أيضًا أنّ يونان هو رجل صلاة، ففي جوف الحوت كان يُصلّي، وعندما اغتمّ وتضايق أيضًا صلّى إلى الربّ (يون4: 2).. وصلاة يونان كانت تخرج ببساطة وصدق من قلبه، بدون تنميق أو أيّ شكل رسمي؛ وإن كانت صلاته وهو في جوف الحوت تتشابه مع صلوات المزامير، التي يبدو أنّه كان يحفظ العديد من عباراتها، وهذا ساعده بالطبع على الصلاة في أصعب الظروف.

    + نعود للسؤال؛ لماذا يغتمّ يونان الخادم لسبب خلاص الذين يخدمهم؟ أليس خلاص النفوس هو غاية إيماننا (1بط1: 9)، وهو الهدف الأوّل من عملنا مع الله؟!

    إجابة هذا السؤال ليست سهلة، ولكنّها قد تقترب من أحد هذه الأسباب:
   1- الرسالة الإلهيّة التي كان على يونان إبلاغها لشعب مدينة نينوى، لم تكُن دعوةً للتوبة، بل كانت حُكمًا إلهيًّا عليهم بالهلاك؛ وكانت صيغتها بالتحديد "بعد ثلاثة أيّام [بحسب النصّ اليوناني والقبطي] تنقلب نينوى" (يون3: 4). ولكن يبدو أنّه بسبب قوّة وصدق كرازته بهذه الرسالة المُخيفة، ارتعب الشعب، وآمنوا بالله وتابوا وصاموا وصلّوا.. وهنا نفهم أنّ يونان لم يكُن يضع في حسبانه توبة الشعب، بل فقط هو كان يبلّغهم بقضاء إلهي مُدَمِّر سينزل عليهم.

   2- يُرَجِّح بعض الآباء، مثل ق. جيروم، أنّ يونان بمحدوديّة تفكيره لم يُرِد الذهاب لنينوى أصلاً، لأنّه كان يعتقد أنّ قبول توبة الأُمم قد يُعني رفض وهلاك اليهود أهله؛ لذلك لم يكُن يريد أن تَخلُص نينوى.

   3- ربّما كان يونان يُفكِّر أنّ أهل نينوى أشرار، ويستحِقّون الموت. فكيف لا يُعاقَبون؟ إنّ العدل يوجِب عقابهم!

   4- من المُمكِن أن يونان قد اغتمّ غمًّا شديدًا، إذ شعر أنّ مجهوده بطول يوم كامل في الإبلاغ بهلاكهم، قد ضاع بدون فائدة.. ولا ننسى أنّه كان ذا شخصيّة حسّاسة؛ يفرح لأقلّ شيء، ويغتمّ لأقلّ شيء أيضًا، كما يَظهَر من أحداث السِّفر.

   5- يُلَمِّح ق. جيروم في تعليقه على موقف يونان، أنّ البعض قد يتّخذ موقفَ الابن الأكبر من أخيه الأصغر، كما جاء في المثل (لو15)؛ بسبب أنّه لا يستطيع أن يُدرِك مدى حبّ الله لأولاده، وفرحته الشديدة بعودتهم لأحضانه!

   6- لعلّ السبب الرئيسي هو أنّ نظرة الله قد تكون مختلفة تمامًا عن نظرتنا المحدودة للأمور، وأنّ قيمة النفس لديه -مهما كانت عيوبها- أعظم بكثير مِمّا نراها نحن.

   7- يقول ق. كيرلّس الكبير: "إنّ يونان الطوباوي كان مضغوطًا، ليس بسبب أنّ المدينة قد نجت من الهلاك، ولكن لأنّه [بعدم تحقيق إنذاره] قد أعطى انطباعًا عن كونِهِ كاذِبًا وثرثارًا، وكان يُحَذّرهم باطلاً، متكلّمًا بفكره الخاصّ، وليس أبدًا ما خرج من فم الربّ".

    + أخيرًا، أختتم حديثي بهذا السؤال: لماذا نطلب بلجاجة أن يكون الله رحيمًا معنا، ولا نَرضَى أحيانًا أن يكون رحيمًا أيضًا مع الآَخَرين؟! وكيف لا نكون رحماء مع الآخَرين، بينما نحن نطلب مراحم الله لنا في كلّ صلاة؟!

القمص يوحنا نصيف
يونان'>صوم يونان 2025م