أحمد الجمال
انفتح باب «لو» على مصاريعه.. لتدخل الشياطين منه.. ولتتكثف الفرضيات اللانهائية التى لا يمكن للعقل أن يرجح أيًّا منها.
فتحه الذين يعتبرون الكرامة والوجدان الإنسانى السوى المؤمن والمتشبع بقيم الحق والحرية، ومقاومة الظلم والسعى للعدل والمساواة، والحفاظ على الأوطان؛ أمورًا غير ضرورية للوجود الإنسانى، بل البشرى أيضًا، لأنها ترهات وأوهام باطلة تجلب التخلف والتطرف، بل تجلب الهلاك لأنها تستفز الأقوياء الذين يتحكمون فى العالم، وهم فى تاريخنا المعاصر الآن البِيض الأنجلوساكسون البروتستانت الذين يحكمون أمريكا، والأشكيناز البِيض اليهود الصهاينة المتطرفون الذين يحكمون إسرائيل ويقودون مجتمعها، ومع هؤلاء وأولئك نخب الرأسمالية العالمية وبعض مؤسسات الحكم واتخاذ القرار فى أوروبا!.
انفتح باب «لو»، فدخلت الشياطين لتحاول تمزيق ما تبقى من تماسك فكرى وسياسى لدينا، وشياطين التشكيك فى كل ما اعتنقناه من قيم عليا منذ قاومت إيزيس وحورس الشر، وحارب أحمس الهكسوس، واستُشهد الآلاف تمسكًا بإيمانهم المسيحى القويم، وبعدهم الآلاف الذين دافعوا عن تراب المحروسة وصدوا الأعداء فى التاريخين الوسيط والحديث والمعاصر!.
لأن «لو» على لسان عديمى الكرامة الإنسانية تتجه إلى القول المتكرر «لو أن حماس وشركاءها لم يفعلوا ما فعلوه لما كانت إسرائيل فعلت وتفعل ما تفعله». ولتمتد العبارات: «لو أن حماس والفلسطينيين لما أقدم دونالد ترامب على ما قال وعلى ما يريد فعله»، و«لو أن ما جرى فى السابع من أكتوبر لم يحدث لكان أهل غزة وأهل فلسطين والمنطقة بأكملها مستمرين فى الاستقرار والنماء والرفاء والبنين والبنات»!.
ولا يدرك هؤلاء المتنطعون أمام عدسات وميكروفونات الفضائيات الأمريكية والأوروبية أن البشرية لو مدت خط «لو» على مداه لكانت أول «لو» هى «لو أن الله- سبحانه وتعالى- لم يخلق الأكوان.. ولم يستخلف الإنسان فى الأرض لمَا كانت مسيرة القتل والدمار والكذب والنفاق وُجدت»!.
وبعد ذلك تأتى الملايين من «لو» عند كل مفصل، ابتداء من مفصل الغواية بالأكل من الشجرة، ومفصل قتل قابيل لهابيل إلى ما لا نهاية له!.
ثم إننا لو حاولنا أن يفهم أولئك المتنطعون أن كل الأحداث التى تقع لها أسباب ومقدمات ومسارات ونتائج، ويمكن استخلاص الدروس منها؛ فإنهم يبادرون برفض أى حديث عن التاريخ وعن ثوابت وجدان الشعوب، أو أى منظومات تتصل بما استقرت عليه الإنسانية من مضامين تحولت إلى مواثيق لتحديد مصائر الشعوب ولحقوق الإنسان وللتعامل مع الطبيعة وللتعاون بين الأمم وغير ذلك، ومن فورهم يُقحمون منطق الوقوعية الدونية، حتى وإن ألبسوه منطق الواقعية.
وفى حالة غزة لم يكن أمر العدوان الصهيونى وإفراغها من سكانها وليد وجود حماس ولا حتى بعض شركائها من المقاومة لأننا- وعلى سبيل المثال وليس الحصر- نقرأ فى العنوان الرئيسى «المانشيت» لصحيفة الدستور الأردنية بعددها الصادر فى يوم الأربعاء ١١ مارس ١٩٧٠ خبرًا يقول: «بدء تفريغ قطاع غزة من السكان. اتصالات عربية عاجلة لوقف الخطة الإسرائيلية ضد ٣٠٠ ألف مواطن عربى فى القطاع»، ولن أرتد إلى ما هو أبعد من ٥٥ سنة لأذكر تفاصيل خطة رئيس الوزراء البريطانى كامبل بنرمان سنة ١٩٠٧، ولا وعد بالفور ١٩١٧، ومن قبلهما المؤتمر الصهيونى الأول فى أغسطس ١٨٩٧، وما تلاه من مؤتمرات صهيونية خططت لاغتصاب فلسطين وتهجير أهلها.. ولم تكن حماس ولا فتح ولا الشعبية ولا الديمقراطية ولا الجهاد ولا غيرهم من مقاومين موجودين.
ولقد صادفت حوارًا تلفزيونيًّا أُجرى مع الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، يقول فيه وبوضوح إن انتهاكًا مروعًا لحقوق الإنسان يحدث فى الأرض الفلسطينية المحتلة، وإنه لا أحد فى الكونجرس الأمريكى يستطيع أن يفكر فى التحدث عن ذلك، أو يدعو علنًا إلى التحقيق فى ذلك، وإن الكلام عما تفعله إسرائيل محظور «تابو». وعدا ذلك، لقد شاهدنا خلال العام ونصف العام الفائت ومازلنا نشاهد حتى الآن يهودًا عاديين وحاخامات يرفضون وجود إسرائيل من الأصل، ومثلهم يرفضون ويدينون ما تفعله باسم اليهود أو الدين اليهودى.. ومع ذلك يطلع علينا أصحاب السحنات المتنطعة الكالحة فى فضائيات أمريكية وأوروبية ليتحدثوا عكس كل ذلك، معتمدين منطق «لو أن حماس..»، الذى يجب أن نعتمد إزاءه منطقًا يقول: «ليت أمهاتكم لم تلدكم»، وليتكم تفكرون مرة واحدة فى كيف يواجه شعب أرضه محتلة- ويمارس المحتل ضده كل ألوان القهر والإبادة الجماعية والتمييز، ولا تستطيع كل مؤسسات الشرعية الدولية وحقوق الإنسان أن توقف هذا المحتل- الأمر، بعد أن استُنفدت كل الوسائل السلمية.. كيف ذلك خارج إطار قاعدتكم الأثيرة: «إذا تصادف أن تعرضت للاغتصاب عنوة، فلا تقاوم.. اخلع.. واستمتع»!.
نقلا عن المصرى اليوم