كمال زاخر
الخميس 13 فبراير 2025

[1]

تلح على خاطرى كلمات القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس فى رسالته الثانية؛ "فإننى الآن اسكب سكيباً، ووقت انحلالى قد حضر"، ويوصيه "وأما أنت فَاصحُ فى كل شئ احتمل المشقات. اعمل عمل المبشر. تمم خدمتك."

ولست بحاجة للقول بأننى لا أقرن نفسى بكليهما، لكننى توقفت كثيراً عند السبب وراء هذه الوصية، والذى رسمه القديس بولس بكلمات واضحة عن ما ينتظر الكنيسة، وهو ما استطيع أن أقر أننا نعيشه اليوم، والذى تسلل الينا قبل عقود هذا عددها؛ واستأذن القارئ فى أن اضعها أمامه بحروف القديس بولس نفسه "اكْرِزْ بِالْكَلِمَةِ. اعْكُفْ عَلَى ذلِكَ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ. وَبِّخِ، انْتَهِرْ، عِظْ بِكُلِّ أَنَاةٍ وَتَعْلِيمٍ. لأَنَّهُ سَيَكُونُ وَقْتٌ لاَ يَحْتَمِلُونَ فِيهِ التَّعْلِيمَ الصَّحِيحَ، بَلْ حَسَبَ شَهَوَاتِهِمُ الْخَاصَّةِ يَجْمَعُونَ لَهُمْ مُعَلِّمِينَ مُسْتَحِكَّةً مَسَامِعُهُمْ، فَيَصْرِفُونَ مَسَامِعَهُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَيَنْحَرِفُونَ إِلَى الْخُرَافَاتِ."

واجدنى فى مناخاتنا المشحونة بالتربص والغضب والبحث فيما وراء السطور تفتيشاً فى الضمائر، بحاجة إلى التأكيد على ان توقفى وطرحى هنا يقفان خارج مدارات الفرقاء، ولا يحملان اسقاطاً على أحد، أو تياراً أو فريقاً، فقد ضج العالم الإفتراضى باطروحاتهم والتى حولته إلى حلبة مترامية الأطراف لصراعات تذكرنا بمباريات "مصارعة الديوك" العنيفة التى تم توظيفها فى عالم المراهنات، وبعض الدول فرضت عليها رسوما صارت تشكل أحد أهم مصادر الدخل عندها، اللافت فى تلك المصارعات أن الديوك تخرج منها إما موتاً أو مثخنة بجراحات مميتة، فيما يجنى مديرى المباريات والمتراهنون أرباحاً طائلة.

يحدث هذا بينما نحفظ عن ظهر قلب تحذير القديس بولس [وَأَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ، بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَال فِي الْمَسِيحِ، سَقَيْتُكُمْ لَبَنًا لاَ طَعَامًا، لأَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا بَعْدُ تَسْتَطِيعُونَ، بَلِ الآنَ أَيْضًا لاَ تَسْتَطِيعُونَ، لأَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ. فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقٌ، أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ؟ لأَنَّهُ مَتَى قَالَ وَاحِدٌ:«أَنَا لِبُولُسَ» وَآخَرُ:«أَنَا لأَبُلُّوسَ» أَفَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ؟ فَمَنْ هُوَ بُولُسُ؟ وَمَنْ هُوَ أَبُلُّوسُ؟ بَلْ خَادِمَانِ آمَنْتُمْ بِوَاسِطَتِهِمَا، وَكَمَا أَعْطَى الرَّبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ: أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لكِنَّ اللهَ كَانَ يُنْمِي.]
بين بولس وأبلوس انحصرت الصراعات عندنا فيما خرج المسيح من المعادلة ومن حياتنا، وإن بقى فى عباداتنا النمطية التى نحرص عليها فى طقوسية فاقدة للمعايشة الحياتية.

الذى اثار داخلى كل هذا هو أننى اشتبكت عبر ثلاثة عقود ونصف ويزيد مع الاشكاليات الكنسية، طارحاً ومحللاً ومقدما لمخارج أزعم اننى امتلكتها عبر خدمة ممتدة بين مدارس الأحد واجتماعات الشباب، والحياة العملية المشتبكة مع الناس والهم العام، وقد تتلمذت بانتباه على خدام اتقياء كنسيون واعون، مدنيون وكهنة، لعل ابرزهم بحسب زمن التلمذة، والتى انطلقت فى اروقة كنيستى "مار جرجس بالقللى"؛ ابى القمص يوحنا عبد المسيح ابادير والمهندس باقى نمر ميخائيل (القس شنودة ميخائيل فيما بعد) والاستاذ جورج رمزى أمين مدارس الأحد الذى فتح لنا الباب لنتعرف على فكر الآباء، عبر كتاب حياة الصلاة الذى وفره لنا بنظام التقسيط بما يتناسب مع قروشنا القليلة وقتها.

ثم تعرف اقدامنا الطريق الى اجتماع الاستاذ كمال حبيب الذى دخل بنا الى عمق الكتاب المقدس، بكنيسة مار مينا ـ بشبرا ـ التى تقع على بعد خطوات من كنيستنا، ويصير فيما بعد الأنبا بيمن اسقف ملوى، ومن شبرا حيث كنيسته نذهب الى اجتماع ناشئ لأسقف واعد مختلف بالكلية الاكليريكية لنشاهد افتتاح الإجتماع العام لأسقف التعليم الانبا شنودة، الذى يبحر بنا فى تأملات سخية فى مزامير سواعى الأجبية، ثم تنويعات من التأملات الروحية، بلغة كسرت الانماط السائدة وقتها، والتى كانت تعتمد على اللغة الفصحى المحتشدة بالبلاغة والمحسنات والشعر التقليدى، فإذا بنا أمام أسقف يخاطب الشباب بلغة معاصرة، وفى موضوعات تدغدغ مشاعرهم وتفتح أمامهم آفاق العشرة مع الله وتضع اقدامهم على طريق التوبة. وننتقل معه الى القاعة اليوسابية بالاكليريكية، ثم الى البطريركية بكلوت بك بعد ان ضاقت قاعات الاكليريكية على مرتادى الاجتماع، ثم ننتقل معه الى الكاتدرائية المرقسية بالانبا رويس وهى بعد هيكلاً خرسانياً، إلى أن استقر به المقام وقد صار بطريركاً للكنيسة فى بهو الكاتدرائية.

فى غضون ذلك نطرق ابواب الأديرة لنتعرف على جناح الرهبنة ونغترف من خبرات النسك والنمو الروحى ونتسلح بتقوى آباء البرية، ونتلقف كتب الأب متى المسكين بشغف لتتسع مداركنا اللاهوتية وتكتمل دائرة مصادر الوعى بين الوعظ والتعليم والتلمذة.

غير بعيد نتغذى من روافد عديدة كان ابرزها فى مراحلنا المبكرة كتب الارشيدياكون رمسيس نجيب، التى تناقش قضايا الشباب المسيحى فى مواجهة الحياة العامة والمحاربات المرتبطة بمرحلتهم السنية، حول العفة والطهارة والنمو الروحى بعيداً عن الاطروحات النظرية المثالية المفارقة للواقع، ونجح فى أن يصالح بيننا وبين المجتمع العام مشاركين فاعلين فى دعمه لحياة أفضل. وكان الدكتور نصحى عبد الشهيد أحد العلامات المضيئة والفاعلة فى توفير ابداعات اباء الكنيسة الأولى منابع اللاهوت الآبائى الأرثوذكسى مترجمة من اصولها اليونانية، فى مركز دراسات الآباء الذى دشنه لوصل ما انقطع مع الآباء.

وقد تركت قلمى يستدعى كل هذه الخبرات لنقول أننا كنا جيلاً محظوظاً، استطاع أن ينجو بفعل تعدد مصادر التكوين، من مصيدة الانحياز لتيار أو مدرسة بعينها، واحتفظنا بتقديرنا لكل من تعلمنا وتتلمذنا عليهم، حتى فى ادق لحظات المواجهة مع الإشكاليات الكنسية. وكتاباتى تقف شاهدة على هذا.

دعونا نقترب من جذور الأزمة الكنسية المعاشة متى بدأت وكيف تنامت وهل من مخارج؟، هذا ما سنتناوله فى مقال تال.