د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك
إنّ هذه السُّطور التّالية ما هي إلَّا مجرّد أخبارٍ دينيَّة ومسيحيّة، وتوصيفٍ مُقتضبٍ لأوضاع وأحوال معاصرة، مع قليلٍ من التّساؤلات الواقعيّة ووِجْهة النّظر التّحليليّة.
(1) أُرثوذكسُ وكاثوليك وبروتستانت
إنّ بعضًا ممَّن يدّعون أنّهم مسيحيّون "أُرثوذكس" (أصحاب الرّأي المستقيم)، هم ذاتهم الذين يعلّمون تعاليم خاطئة وغير مستقيمة.
وبعضُ الذين يدّعون أنّهم مسيحيّون "كاثوليك" (جامعون وشاملون)، يقتصرون على منطقٍ منغلق ومحليّ ومفرِّق.
وبعضُ هؤلاء المدعوين والمدّعين أنّهم مسيحيّون "بروتستانت" (معترضون ومعارضون ومُصلِحون)، يُظهِرون بالقول والفعل أنّهم محافظون وتقليديّون وناقلون ورجعيّون.
وبعضُ الذين يطلقون عليهم، ويطلقون على أنفسهم، أنّهم خُدّام كلمة الله، ورُعَاة الخراف، ورجال الدّين، ما هم إلَّا مجرّد خُدّام وعُبَّاد لذواتهم، ورُعَاة لمصالحهم ومنافعهم، وتُجّار دينٍ.
وفي هذا السّياق، يصدق وصفُ الكاردينال جوزيف راتسينغر (1927-2022)، حينما كُلِّف بكتابة تأمُّلات "مراحل درب الصّليب"، التى اُحتِفل بها يوم الجمعة المقدّسة أو العظيمة في "الكولوسيوم" بروما، في العام 2005م – العام عَيْنه الذي اُنتخِب فيه بابا للكنيسة الكاثوليكيّة متّخِذًا اسم "بِنِديكْتُس السَّادس عشر". فقد سطَّر هذه الكلمات المعبِّرة في المرحلة التّاسعة: «كم من مرّة نحتفل بأنفسنا فقط دون أيّ اعتبار له [ليسوع]! كم من مرّة شُوِّهَت كلمته وأُسِيء استعمالها! ما مدى ضآلة الإيمان في العديد من النّظريّات، وكم من كلمات فارغة! كم من قذارة قائمة في الكنيسة، وبالتّحديد أيضًا بين أولئك الذين ينبغي أن ينتموا له كليّةً، في الكهنوت! كم من كبرياء، وكم من اكتفاء ذاتيّ!».
(2) معاييرُنا الدّنيويّة المعاصرة
كم هو محزنٌ حقًّا أنّ تفكير مسيحي اليوم، ومنطقهم، يماثلان في جوانب عدّة التّفكير والمنطق الدّنيويَّيْن الخاطئَيْن. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ما هي العلاقة القائمة بين "فكر المسيح" وتقلُّد المناصب الرّفيعة (سواء الدّينيّة أو الدّنيويّة)، والتّودُّد إلى الحكَّام والرّؤساء والشّخصيّات العامّة، والشَّعبويّة، والظّهورات الإعلاميّة، وشهرة الميديا؟ أين اتّباع السّيّد المسيح والتَّلمذة له –باتّضاع وإصرار– في هذا كلّه؟
بالطّبع، لا تكمن الإشكاليّة في المناصب والمراكز والأوضاع والمواقع الدّينيّة والدّنيويّة في حدّ ذاتها؛ وإنّما الآفة هي في معاييرنا الدّنيويّة المعاصرة، التي لا تجد لها أيَّ سندٍ في أساسيّات الكِتاب المقدّس، وأُصول وأصالة التّقليد الكنسيّ، وعُمْق الرّوحانيّات المسيحيّة المتنوّعة.
(3) المسيحيّةُ الظّاهريّة وقَتْلُ المحبّة
قد ماتت المحبّةُ في قلوب المسيحيّين المعاصريّين؛ ماتت لأنّنا نحن الذين قتلناها مرّة أخرى. لقد جاءت المحبّةُ المتجسّدة يومًا ما فماتت بفعلٍ إراديّ وطوعيّ من جهتها، حتّى تحيا في قلوب البشر. ولكنّها بعد أن سكنت قلوبَ المسيحيّين منذ البداية، قام المسيحيّون المعاصرون بقَتْلها قَتْلًا غادرًا وخائنًا، وبكلّ استهتار وحماقة وجهل، بتفكيرهم وأفعالهم ومواقفهم وسلوكياتهم.
وهذه هي بالحقيقة مَأساة وتراجيديا المسيحيّة الظّاهريّة-الإسميّة المعاصرة، إذ إنّها قد أنجبت قَتَلَةً للمحبّة. أجل، إنَّ مسيحيّة المحبّة المتجسّدة أرقى وأنقى من المسيحيّين المعاصرين.
(4) مَجيءُ السّيّد المسيح إلى مِصْر مرّة أخرى
هَل لو جاء السّيّدُ المسيح إلى مِصْر مرّة أخرى، كشابٍ بالغ وليس كطفل،
لكانوا هَرْطَقوه لكونه أكثر إنسانيّة وأخوَّة ممّا اعتادوا وعهدوا،
وكانوا شرعوا أيضًا في شرح عقيدتهم "المسيحيّة-الأُرثوذكسيّة" له حول كونه إلهًا أكثر منه إنسانًا؟
(5) الكَنِيسةُ الكاثوليكيّة و"السِّينودُس حول السِّينودُسيَّة"
لقد احتفلت الكنيسةُ الكاثوليكيّة، في جميع بقاع العالم، "بالسِّينودُس حول السِّينودُسيَّة" (2021-2024). وفي شهر أكتوبر/تشرين الأوّل للعام 2024، بمدينة روما العريقة، عُقِدت جَلْسات الدّورة الثّانية والأخيرة للجمعيّة العامّة العاديّة السّادسة عشرة لسِينودُس الأساقفة، والتي قد تمّت من قَبل أولى جَلْساتها في الأسابيع الثّلاثة الأولى من أكتوبر/تشرين الأوّل المنصرم (2023).
ومع ذلك، يمكن الجَزْم بأنّنا قد عبرنا "السِّينودُس حول السِّينودُسيَّة"، ولكنّ السِّينودُس لم يعبر إلينا وبنا، وكأنّ شيئًا لم يكن!
وهذه هي مجرّد تساؤلات في الحَلْق:
كيف يطالبون بأن يفهم شعبُ الله المقدّس (أي "الكنيسة") حقيقةَ "السّينودُسيّة" نظريًّا، وهو يحياها عمليًّا منذ تأسيس كنيسة المسيح، عن طريق "الحِسّ الإيمانيّ"، في حين أنّهم هم أنفسهم لا يستوعبونها –بالقدر الكافي– نظريًّا وعمليًّا، ولا يتقبّلون العَيْش بموجبها عندما تُهدِّد سلطتهم ومناصبهم ومصالحهم؟
وكيف يطلقون على أنفسهم "خُدّام الكلمة" الأوفياء، وهم يحاربون بالقطيعة الخُدّام الأسخياء الملتصقين بالكلمة والكلمة ملتصقة بهم، لا لشيء إلَّا لكونهم "علمانيّين"؟ وكيف ينادون بأنَّ المسيح المعلّم قد كرّم وحرّر المرأة بشكل قطعيّ، وهم يعاملون النّساء بأدنى قدر من الكرامة والحرّيّة، ويضعونهن في قوالب تقاليدهم ومَوْرُوثَاتهم الذُّكوريّة العنصريّة المُقَوْلَبَة أو المُؤدلَجة (تَبنّي "أَيْدُيُولُوجْيَا" ما)؟
(6) الإنتاجُ المحلّيّ
إنّ الأنبياء الذين بلا كرامة في أوطاننا، هم خُبراءٌ وعلماء في أوطانٍ أخرى. لذا، فكيف يتقدّمون، يا صديقي، وهم يطلقون أعيرة ناريّة تجاه مَن يتقدّمهم، ويغتابونه مرارًا وتكرارًا؟ إنّه لا يتقدّمهم في السّلطة والسّلطان فحسب، وإنّما في الرّأي والرّؤية والحكمة والعمل والإنتاج أيضًا!
(7) خُلاصةٌ واقعيّةٌ وحزينةٌ في آنٍ واحدٍ
وأخيرًا، في حِقبةِ جيلنا الحالي، على مستوى جميع الطّوائف والمذاهب الكنسيّة، لا صوت يعلو على "المرويَّات السّمعيّة" الزّائفة ("قَالوا لِي...")؛ ولا ثمّة أيُّ منهجٍ في قراءة الكِتاب المقدّس، وتاريخ الكنيسة، وتطوّر العقائد المسيحيّة. وليس هذا فقط، بل ثمّة انحطاطٌ واضح في الأسلوب والنّقاش والمنهج والفكر الدّينيّ، إذ إنّه بحُجّة هذه "المرويَّات السّمعيّة" الزّائفة تُمارَس يوميًّا مُعادةُ وكراهيّة ورفض الآخر.
والمأساةُ الأخرى هي هذه، والتي رُبَّما تكون العِلّة لما أوردتُه للتّوّ: بدلًا مِن القراءة للتّعمُّق في المعرفة والفهم، ولتكوين ثقافة معرفيّة مُطّلعة وواعية، باتت لدينا «"ثقافة" عدم القراءة»؛ أي أنّ رَذِيلة "عدم القراءة" قد صارت عندنا "ثقافةً". وقد نتج عن هذا كلّه المحتوى الثّقافيّ ("اللا-ثقافيّ") الفارغ والأجوف، النّابع من عدم القراءة والمعرفة والفهم أيضًا، ممَّا فتَح البابَ على مِصْراعيه لظهور "المرويَّات السّمعيّة" الزّائفة.