القمّص يوحنا نصيف
عندما التقى سمعان الشيخ بالطفل يسوع في الهيكل، وحمله في حضنه، أحسّ أنّه وصل إلى غاية حياته على الأرض، وعندها سبّح الله بتسابيح البركة والخلاص، وأعلن أنّه جاهزٌ للانطلاق من هذا العالم!
اللقاء مع المسيح هو الغاية العظمى لأيّ إنسان، التي عندما يصِل إليها يَشبَع تمامًا، ويَفرح فرحًا لا يمكن وصفه.. ويَشعُر أنّه لا يريد شيئًا على الأرض، فقد امتلك كلّ شيء!
على الرغم أنّ سمعان كان رجلاً بارًّا تقيًّا، والروح القدس كان يقوده، بحسب وصف الإنجيل (لو2: 25-27)، بمعنى أنّه كان ذا قامة روحيّة عالية؛ إلاّ أنّ لقاءه بالمسيح رَفَعَهُ إلى مستوى آخَر، فانتقل نَقلَةً نوعيّةً هائلةً مِن جِهة علاقته بالله، وصار كأنّه يقول مع أيّوب الصدّيق: "بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي" (أي42: 5).
إذا حاولنا تطبيق هذا الحَدَث على مستوانا الشخصي؛ فنحن بالفِعل قد صرنا بالمعموديّة أبناء الله وأعضاء جسد المسيح وهيكلاً للروح القدس، ولكنّنا لا نزال ننمو في علاقتنا بالله، وننتظر متى نلتقي به وجهًا لوجه، وكأنّنا نقول مع القدّيس يوحنّا: "الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ؟ وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ" (1يو3: 2). والقدّيس يوحنّا هنا كأنّه يستعيد ذكرياته مع حَدَثَ التجلّي، حيث شاهد المسيح في مجده مع قدّيسيه المُمَجَّدين أيضًا (لو9: 29-31)!
من أجل هذا، فحتّى وإن كُنّا لا نزال في الجسد، فإنّه مُتاحٌ لنا أن نتذوّق أحداث ومشاعر التجلّي من آنٍ لآخَر، كعربون لتمتّعنا بالتجلّي الدائم في الحياة الأبديّة.. فمَثلاً في كلّ مرّة نذهب إلى الكنيسة ونقترب من الهيكل، ينبغي أن يكون هدفنا الرئيسي هو اللقاء الشخصي مع ربّنا يسوع، لنأخذه في حضننا، ونحمله في قلوبنا، على مثال سمعان الشيخ. وهذا اللقاء لو تمّ فإنّه ينقلنا لمستوى من الشّبع، يجعلنا لا نجوع لأيّ شيء آخَر في هذه الحياة الأرضيّة.
وكلّنا نعرف أنّ كنيستنا الجميلة تُوَفِّر لنا باستمرار هذا اللقاء، من خلال قناتين رئيسيّتين:
1- القراءات التي تُغذِّينا بها؛ فهذه أنفاس الله وكلمات الحياة الأبديّة التي تنفذ إلى الأعماق لتُحيي النفس وتُشبِعها، فتصير مَسبِيّة بحبّ عريسها، مثلما كانت مريم تجلس عند قدميّ الربّ يسوع تسمع كلامه (لو10: 39-42)، مُفَضِّلةً النصيب الصالح الذي سيبقى معها إلى الأبد.
2- التناول من جسد المسيح ودمه الأقدسين؛ لكي نتّحد به على الدوام!
وهنا يحلو لي أن أضع أمامكم مقتطفات من صلوات جميلة جدًّا يصلِّيها الأب الكاهن في القدّاس الباسيلي، وهي صلوات خضوع قبل التناول:
[نشكرك أيّها الرب الإله الضابط الكل، لأنّ رحمتك عظيمة علينا، إذ أعددتَ لنا ما تشتهي الملائكة أن تَطَّلِع عليه. نسأل ونطلب من صلاحِك يا محبّ البشر، لكي إذ طهّرتنا كلّنا تُوَحِّدنا بك، من جهة تناولنا من أسرارك الإلهيّة. لكي نكون مملوءين من روحك القدّوس، وثابتين في إيمانك المستقيم، وممتلئين من شوق محبّتك الحقيقيّة. وننطق بمجدك كلّ حين].
[ليُصَيِّرنا تناولنا من أسرارك المقدّسة، واحدًا معك إلى الانقضاء].
وأيضًا مقتطفات من صلاة أخرى في القداس الكيرلّسي، وهي صلاة خضوع بعد التناول:
[أنتَ الذي وضعنا حياتنا عندك يارب، أيّها الربّ الذي يملأ الكلّ. احفظنا في كلّ موضع نحضر فيه. والخشوع الذي صار لنا بالصلاة، وطِيبُ القلبِ بهذه الحياة المستقيمة، احفظهما لنا غير مسروقين.. لكي في كلّ زمان وكلّ مكان لربوبيّتك، ننظر إليك ونسلك في ما يُرضيك وما تهواه].
فنحن عندما نتناول من الأسرار المقدّسة، فإنّنا نتّحد بالمسيح، ونضع حياتنا عنده، ملتمسين أن تُحفَظ فينا مشاعر الخشوع والتعزية على الدوام؛ وإذ قد التهبت قلوبنا بشوق محبّته الحقيقيّة، فقد صِرنا نشتهي اليوم الذي نتغرّب فيه عن هذا الجسد، لكي نستوطِن عند الربّ (2كو5: 8)، بعد أن نؤدِّي رسالتنا على الأرض التي يريدها مِنّا، من أجل تمجيد اسمه، وضمّ نفوس كثيرة لعضويّة ملكوته.
كلّ عام ونحن جميعًا ثابتون في محبّة المسيح،،