أحمد الجمال
بقيت أؤجل ما كان وبقى يطالبنى به بعض الأصدقاء، وفيهم أجلاء، يتقدمهم الأستاذ الدكتور عبدالمنعم المشاط، بأن أواصل الكتابة عن القرية والموالد والأديرة والكنائس، إلى أن هجم برد فبراير ومعه أمشير، لأنهما متزامنان.
وحتى الآن لا أعرف من أين عرفت أمى- رحمة الله عليها- أن فبراير هو شباط؟ لأنها كانت ترتدى الجلابيب الكستور وتتكلفت فى شال صوف ثقيل إذا ما حلَّت «سقعة شباط»، وكثيرًا ما كانت ترتدى الجوارب وهى فى الدار، وتُشعل بالقرب من قدميها وابور «بابور» الجاز، الذى استبدلت برأسه «عِدَّته» العادية رأسًا أخرى هى «عدة ساكتة»، لا يصدر عنها الصوت العالى المزعج، ولا يبرز اللهب الطويل، ولكن صوتها منخفض لا يكاد يُسمع، ولهبها يخرج من رأسها المستدير ذى الثقوب الضيقة ولونه أزرق نقى.
وكان «البابور» تلازمه «السبرتاية» التى هى علبة مغلقة لها فتحة تُملأ منها، ولها بزبوز طويل ضيق الفتحة، لصب الكحول الأحمر «السبرتو» فى الجفنة التى أسفل «العدَّة».
ومع السبرتاية إبرة من سلك قصير صلب، مثبتة فى يد من الصفيح؛ لزوم تسليك «الفونية»، إذا ما انسدت فتحتها الدقيقة ورفضت أن يتسرب منها الكيروسين بعد ضغطه فى خزان البابور بواسطة «مكبس» فى مقدمته بلف من الكاوتش.. وإلى جواره مفتاح النَّفَس- نون مشددة مفتوحة- الذى يبقى فى وضع الإغلاق إلى أن يتقرر إطفاء البابور فتتم إدارة المفتاح إلى الشمال ليخرج الهواء ويتوقف تدفق الوقود!
وكان ذلك الموقد قد يبقى مشتعلًا هو وواحد أو اثنان آخران؛ إذا كان يوم غسيل الهدوم والاستحمام.. يبقى تحت أوعية المياه «البستلة» المصنوعة من الصاج المجلفن، ومن قبلها- أى قبل اختراع جلفنة الصاج- كان الطشت العالى المصنوع من النحاس الأصفر أو الأحمر، ولتمييزه عن الطشت الكبير الذى كانت الملابس تُغسل فيه أسموه «طشت الغليَّة»- ياء مشددة مفتوحة- أى الغليان.
وكانت الملابس تمر بمراحل متداخلة.. إذ تُجمع بعد خلعها.. وتُصنف ليكون الأبيض وحده.. والألوان الفاتحة وحدها.. والغامق وحده.. والأسود وحده.. والمشكوك فى جودة صباغته يُعزل أيضًا حتى لا تنتقل الصبغة للأبيض والفواتح.. ثم يوضع الأبيض فى طشت الغليان أو «البستلة» ليضاف البوتاس «البطاس» والصابون، ويقلب أثناء الغليان بعصا «عصاية» الغلية، التى كان لها- عند اللزوم- دور آخر شرير، هو ضرب الخارجين على قواعد البيت! وتُنقل الملابس للطشت الكبير والنسوة المساعدات اللاتى يأتين خصيصًا يومى الخبيز ويوم الغسيل ويوم غسيل ونشر القمح قبل الطحين للمساعدة بالأجر، ويكون صابون الشمس والسانلايت جاهزين، لأن مساحيق الغسيل التى بدأت بنوع اسمه «أومو» لم تكن اختُرعت.
وتبدأ الأيادى فى أول مرحلة هى «مغّ» الهدوم- غين مشددة- ثم دعكها.. وإذا كانت آثار العرق والتراب متشبثة بالنسيج يبدأ الـ«حَتّ»- تاء مشددة- وهو دعك الهدمة بقوة، وإذا لزم الأمر بفرشة البلاط شديدة الخشونة.. ثم يتم الشطف عدة مرات.. ويتم الحذر من وضع الغسيل ذى الألوان المختلفة فوق بعضه، حتى لا «ينضح» على بعضه البعض.. وفى هذا أذكر قفشات العم والصديق الراحل الأستاذ كامل زهيرى، الذى كان يؤكد أن الزوجين- الرجل والمرأة- ينضحان على بعضهما إذا استطالت العشرة، فيبدوان بملامح متقاربة وكأنهما أخوان وليسا زوجين!
وكانوا بعد فترة من اشتعال البوابير، التى هى فى لغة بعض المناطق «بواجير»، ومن هنا جاء المفرد «الباجور»، وخشية انفجارها من شدة الحرارة المرتدة من قاع البستلة إلى خزان الموقد، يبللون خرقًا من القماش القديم «هلاهيل» لتوضع مبتلة على الخزان، وإذا جفّت سُكب الماء مجددًا إلى حين الانتهاء!
وكان للبابور المشتعل وظيفة أخرى خلال شباط- أمشير، هى أن يتم إطعام الكتاكيت، التى تم شراء العشرات منها، ووضع الموقد فى منتصف المكان لتدفئة الدجاج الصغير، وبعد أن يأكل وجبته من دشيش الحبوب المخلوط بفتات الخبز وفتات بيض مسلوق وجبن قريش غير مملح؛ يودع فى القفة أو القفص ويزج به تحت السرير!
وفى شباط- أمشير كان باعة الكتاكيت يدورون بها محملة فى أقفاص كبيرة على جانبى ظهر الحمار، وعادة ما كانوا قادمين من قرية «برما» صاحبة الحكاية المشهورة «حسبة برما»، وتباع الفراخ بالتورة «الطورة» وهى أربعة.. وإذا اشترت إحداهن عشر طورات أخذت طورة هدية مجانية.. وتصنف الكتاكيت بأسماء منها «أبو رقبانة» إذا كانت رقبته عارية من الريش، و«بشت الجمَّال» أى عباءة الجمَّال، إذا كان ريشه ملونًا بعديد من الألوان الغالب عليها البنى ودرجاته.
وبعد اقتنائها، وإذا كانت الدار دار عائلة كبيرة تضم عدة أسر؛ فإن كل سيدة تقوم بإحداث علامة خاصة بها فى كل كتكوت، عن طريق قص أظافر الفراخ.. فهذه كتاكيتها «متعلمة» خنصر.. وتلك متعلمة بنصر.. والثالثة متعلمة الاثنين، أى خنصر وبنصر وهلمَّ جرا، فإذا شب الفرخ واقترب من العمر الذى يحمل فيه لحمًا صار «شمورت»، وإذا تجاوز وبلغ مرحلة التلقيح بالنسبة للذكور الديوك والبيض بالنسبة للإناث «البرابر» صار «عتقى»! وعادة ما كان يوصف لحم ومرق الشمورت للمرضى لسهولة هضمه.. وتوصف العتاقى لما بعد الولادة ووضع الحمل!
هل رأيتم بعض مكنونات ريفنا فى شباط- أمشير؟!
وهناك ما هو أكثر بكثير ولكن المساحة ضيقة مثل حصيرة الشتاء، وليتها تتسع كحصيرة الصيف على يمين هذه الصفحة!.
نقلا عن المصرى اليوم
