عادل نعمان

وكما تعودنا منهم نفى المعايب والسوءات، وإنكار الوقائع الجائرة، بل ويؤكدون أنها لم تحدث ولم يسمعوا بها، ونحن أيضا اعتدنا الرد والاعتماد على ما تناقلوه فى كتب التراث، وليس من مصادر أخرى !! فقد أنكروا «العهدة العمرية لابن القيم الجوزية» ونفوا وجودها تاريخيًا، بل ويؤكدون أن عمر بن الخطاب قد أعطى «أهل إيليا» الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم «أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من شىء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، وعليهم أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن» وقد شهد على هذه الوثيقة خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبدالرحمن بن عوف ومعاوية بن أبى سفيان فى السنة الخامسة عشرة من الهجرة والتى أطلق عليها «معاهدة أهل بيت المقدس» وليس كما جاء فى العهدة العمرية لابن القيم الجوزية وقد كان هذا ردًا عن مقالى الخميس قبل الماضى على «صفحات المصرى اليوم» عن حرية العقيدة لغير المسلمين، واستشهدت فيها بما هو مجحف وظالم فى «العهدة العمرية» وقلت إن حرية العقيدة لغير المسلمين ليست منقوصة عند هؤلاء بل ممنوعة ومعدومة، ونترحم عليها من ألف وخمسمائة عام.

ولسنا بمكذبين ما جاء فى معاهدة « بيت المقدس» والأمان الذى أعطاه عمر «لأهل إليا» وما جاء فيها من عدل ورأفة على طول الخط، ولسنا بمصدقين ما جاء فى «العهدة العمرية لابن القيم الجوزية» وما جاء فيها من جور وظلم على طول الخط أيضا، فلربما كذبت واحدة منهما وصدقت الأخرى، وربما كذبا معا، إلا أنه من اللازم أن تعودوا إلى كتاب ابن القيم وأسانيده على صحة العهدة ذاتها.

 

وأما ما قاله ابن القيم الجوزية عن العهدة العمرية فى كتابه أحكام أهل الذمة «وشهرة هذه الشروط تغنى عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها فى كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفى كتبهم وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بها» وهذا سند معتبر وحقيقى وإلا من أين جاءنا هذا التيار السلفى بأحكامه المجحفة؟ (لا نحدث فى مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها، وألا نمنع كنائسنا عن المسلمين أن ينزلوها ليل نهار، ولا نظهر عليها صليبًا، ولا نرفع أصواتنا فى صلواتنا أو موتانا، ولا نتشبه بالمسلمين فى لبس قلنسوة ولاعمامة ولا نعلين ولا فرق شعر الرأس فى مراكبنا، ونجز مقادم رؤوسنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولانركب السروج، ولا نستخدم شيئا من السلاح، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم فى المجالس، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد) والعهدة بها ماهو أكثر من ذلك، وما زال السلفيون يعملون بها كشريعة وأحكام حتى الآن.

 

ويستشهد «ابن القيم» على صدق العهدة هذه بما جاء فى رسالة عمر بن عبد العزيز لعماله فى الأمصار «وذلك عن عمرو بن ميمون» كتب «ينهى النصارى أن يفرقوا رؤوسهم، وتجز نواصيهم، وأن تشد مناطقهم، وألا يركبوا على سرج، وألا يلبسوا عصبا ولاخزا، ويمنع نساؤهم أن يركبن الرحائل» وفى رسالة أخرى لعمر بن عبد العزيز لعماله فى الأمصار «نفس المصدر» فلا أعلمن أن أحدا من العمال أبقى على رجل منهم متصرفا على غير دين الإسلام إلا نكلت به، فإن محو أعمالهم كمحو دينهم، وأنزلوهم منزلتهم التى خصهم الله بها من الذل والصغار «والملاحظ فى هذه الرسالة وهى مختصرة كانت على نفس ما جاء فى رسالة جده ابن الخطاب، والتى نقلها عنه عطاء بن دينار» نفس المصدر «أن عمر أرسل لعماله» لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين فى كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم «ورسالة أخرى» لا تكاتبوا أهل الذمة فتصير بينكم وبنهم المودة وأذلوهم ولا تظلموهم فمن أين جاء بها ابن عبد العزيز إن لم يكن من ابن الخطاب وهما من بطن واحدة؟

 

وأرجو الله ألا تكون هذه العهدة صحيحة، وأن عمر قد أعطى «لأهل إيليا» الأمان فى دينهم وأموالهم ولم تتغير على يده أو يد غيره، وأن ما جاء به «ابن القيم» ونقله عن غيره افتئات على عدل ورحمة العمرين «ابن الخطاب وابن عبد العزيز» فماذا لو قلنا ارفعوا هذا الظلم والاستبداد عن كل أصحاب الأديان الأخرى، واتركوا عباد الله وشأنهم، قولوا لنا بالله عليكم من منكم يستجيب ويعود إلى عدل العمرين؟ ومن يظل على عهدتهما وما تناقله ابن القيم عنهما؟ أجيبونا يرحمكم الله.

 

«الدولة المدنية هى الحل»

نقلا عن المصرى اليوم