الأب جون جبرائيل
الحي لا يميّزه عن الأحياء القريبة منه سوى هدؤه وفقره. تكفيك نظرة واحدة في أزقته وحواريه لتدرك ذلك. رجالٌ يمشون ببدلات ورابطات عنق، ولكن ما إن تقترب حتى تلاحظ أن البدلات مليئة بالثقوب والرقع، والياقات متآكلة. خليط عجيب، كأنهم "أعزّاء قومٍ ذلّوا"! حينما تلمس الفقر القاسي، تدرك أن هؤلاء القوم كان لهم ماضٍ عظيم مليء بالرفاهية، وكأنهم سقطوا فجأة من طبقتهم العالية إلى أسفل السافلين.
وفي هذا الحي، يوجد منزل في الطابق العلوي، شرفته متهالكة مثل شرفات المباني المجاورة، إلا أن هذه الشرفة بالذات تحمل شيئًا مختلفًا. الجميع في الحي يتجنبها، ويكرهها، ويعرفون جيدًا أن من يقف عليها ليس من سكان الحي. على تلك الشرفة، غالبًا ما تقف فتيات في العشرينيات من عمرهن بملابس كاشفة، يرافقهن سيدة خمسينية ليست أمهن. لا تخفى على أحد أن هذه الشرفة تخص شقة يُمارس فيها البغاء. يمقتها كل فرد في الحي الشريف، ولكن مع غروب الشمس، يبدأ أعيان الحي بالتسلل إليها في صمت، يختبئون عن الأنظار. ويلتقون داخلها بوضعاء الحي وفقرائهم. هذه الشقة مكانٌ لا تعرف الطبقية فيها مكانًا، يتساوى الجميع بغرائزهم!
وذات ليلة، عادت المرأة الخمسينية لتجد إحدى الفتيات مقتولة في فراشها، وعليها ملابسها التي كانت ترتديها. تتصل بالشرطة التي تأتي إلى المكان مع الطبيب الشرعي. يبدأ الشرطي بكبرياء وسلطوية في استجواب الفتيات وفتى عاملًا يجهز الشيشة للفتيات ورواد الشقة، بينما يمسك عساكر الشرطة بكل زبون متسلل يطرق الباب أثناء التحقيق الميداني. وعلى الصعيد الآخر، يبدأ الخبر في الانتشار في الحي. "ماتت الساقطة"، يقول أحدهم. تزغرد إحداهنّ قائلة: "هي دي آخرة اللي يمشي في الحرام."
ثم يظهر أحد مثقفي الحي، وهو رجل يرتدي نظارة طبية مع جاكيت قديم وطربوش، يتنقل بين الأزقة وكأنما عاصر الزمن بأسره. يدخل إلى مكان الحادث مستعرضًا الوجوه المألوفة، ويمشي بثقة، لا تُخفيه عثرات الأرصفة ولا تراجع أضواء الشوارع. يقترب من الشرطي الذي كان يتفحص المكان بنظرة حادة، ويرتدي قناع القوة.
"ماذا حدث هنا؟" يسأله الشرطي في عنجهية، "ألم ترَ ما جرى؟"
يرد المثقف ببرود، عينيه ثابتتان وكأنما يتأملان المشهد بأدنى اهتمام، كمن يرى شيئًا وقع داخل قالب درامي قديم، ولكنه يتوقعه تمامًا. "نعم، أرى. كان ذلك متوقعًا."
يفكر الشرطي في محاولة للسيطرة على الموقف ويضغط عليه بسؤال آخر، "من الجاني؟ تعرفه؟"
تتسع حدقتا الشرطي فجأة، ويحس في أعماقه باللحظة الحاسمة التي ربما ستمنحه ترقية، فهو صاحب السبق في الكشف عن الجاني، يتمنى أن يكون هذا هو ما سيقوده إلى الضوء.
يجيب الرجل بابتسامة ساخرة، تتسلل ببطء على شفتيه، "نعم، أعرفه."
"من هو؟" يكرر الشرطي، بصوت أعلى، حاد، وكأنما يسبق نفسه في الحصول على إجابة.
يجيب المثقف، وهو يرفع حاجبه بحركة بطيئة، "المجتمع يا سيديّ."
الشرطي يتراجع خطوة إلى الوراء، تتطاير فكرة الترقية من ذهنه ليحل مكانها الارتباك. يُحدق في المثقف كما لو كان قد سمع شيئًا غير قابل للتصديق. المجتمع؟ هذا ما يعنيه؟
وتنفتح بينهما فجوة. لا الكلمات ولا الأفكار تلتقي في تلك اللحظة، ويبقى الشرطي غارقًا في محاولة فهم الإجابة التي لم يكن يتوقعها أبدًا. يطوي المثقف الشارع في خطوات هادئة، تاركًا وراءه الشرطي الذي يواجه مزيجًا من التساؤل والغضب الذي لا يمكنه التعبير عنه.