القمص يوحنا نصيف
    تحدّثنا في المقال السابق عن سراج الله الذي يمكن أن ينطفئ فينا نتيجة الخطيّة؛ ونستكمل حديثنا في هذا المقال، بطرح السؤالين الباقيين:

(2) كيف ينطفئ سراج الله؟
    يمكن تلخيص إجابة هذا السؤال في أربع نقاط:
   1- الإهمال في التقاط النور الإلهي، مع التراخي في الجهاد والغفلة عن حفظ الحواس، فيمتلئ القلب تدريجيًا بالزوان، كما يقول القديس الأنبا صموئيل المعترف: "اِحذروا من الغفلة فهي أمّ الأوجاع، وهي تُرَبِّي الزوان". والزوان يُظلِم القلب، ويُطفِئ سراجَ الله فيه.

   2- التهاون في مواجهه تيارات الخطية.. فالاستهانة بالشرّ وعدم إدراك خطورته في تدمير النفس، يَدفَع البعض للتهاون في مواجهته.. وأمامنا شمشون الذي استهان بالميول الشهوانيّة والعلاقات النسائيّة، فسقط صريعًا على ركبتيّ دليلة، وفَقَدَ قوّته ونور عينيه والنعمة الإلهيّة التي كانت مُصاحِبةً له.. وأيضًا داود الذي استهان بالنظرة الشرّيرة فوجد نفسه ينزلق في أبشع الخطايا، واظلَمّ قلبه وتقسَّى؛ حتّى أنّه دبّر قتل أوريّا الحثّي بأسلوب قاسٍ متجَرِّد من الشفقة، لم نَرَه منه قبل أو بعد ذلك.. فإظلام القلب نتيجة التهاون مع الخطيّة يكون كارثة حقيقيّة على الإنسان.

    ومن المهم توضيح أنّ الخطايا التي تبدو بسيطة وصغيرة هي في الحقيقة أخطر بكثير من الخطايا الكبيرة الشهيرة التي تنفر منها النفس المستنيرة بالله بمجرّد مواجهتها.. أمّا التي تبدو بسيطة فالكثيرون يتهاونون في مواجهتها، وبالتالي تكون هي بداية منحدَر السقوط والانهيار، وانطفاء السراج الإلهي في الداخل.

   3- العناد والتصميم على الجَمع بين طريق الله وطريق العالم، بين أدوات الله وأدوات العالم، مفاهيم الله ومفاهيم العالم، مع رفض المشورة الصالحة والتعالي والمكابرة... مع أنّ الإنجيل يحذرنا من التعريج بين الفرقتين (1مل18). ويقول لنا بوضوح: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أيَّة خِلطة للبر والإثم؟ وأيّة شركة للنور مع الظلمة؟ وأي اتفاق للمسيح مع بليعال. وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن. وأيّة موافقة لهيكل الله مع الأوثان. فإنكم أنتم هيكل الله الحي كما قال الله إني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا." (2كو14:6-16).

   4- الإصرار على ردّ الشرّ بالشرّ، وهذه حيلة يستدرجنا بها الشيطان -بداعي حِفظِ الكرامة- إلى دائرة الشرّ. ومع الدخول في دائرة الشرّ ينطفئ النور الإلهي في القلب لأنّ "سراج الأشرار ينطفئ" (أي5:18،6).

    ثم نأتي إلى السؤال الأخير:
(3) كيف يشتعل سراج الله في القلب؟

    الله لا يبخل بنوره على أحد، وهو مستعدّ أن يُعِيد النور إلى حياتنا مرّة أخرى، ولكن هناك شروط لالتقاط النور الإلهي لابد من توافُرها، لكي يُضيء سراج الله فينا مرّة ثانية، أهمّها هذه الشروط الثلاثة:

   1- مصابيح مُجَهّزة مملوءة بالزيت..
    فالمصابيح الفارغة تنطَفئ، وتجهيز المصابيح يحتاج للتوبة أولاً للتنظيف، ثم دعوة الروح القدس لكي ينسكب في القلب بلجاجة وتوسُّل.. ويُفَضَّل أن يتمّ هذا بهدوء وفي الخفاء.. وقد يستغرق وقتًا، ولكنه لا يكون وقتًا طويلاً..

   2- قلوب متضعة..
    إذ أنّ روح الله متّضع ولا يرتاح إلاّ في القلب المنسحق.. هو لا يَفرِض نفسه علينا، ولا يُقحِم نفسه في حياتنا بالقوّة، بل هو ينساب بتلقائية في القلوب المتّضعة التي تشعر بحقارتها وضعفها واحتياجها للنعمة.. الله يعطي روحه بلا حساب لأصحاب القلوب الوديعة المتّضعة، ويستودعهم أسراره وينير أفكارهم وطرقهم.. أمّا أفكار التعالي والتفاخر والكبرياء فهي مثل الرياح العاصفة التي تطفئ سراج الله في القلب!

   3- نفوس أمينة..
    فالله لا يعمل في النفوس المُخادعة التي تتظاهر بالتوبة والتقوى، وهي لا تهتمّ بنقاوة الداخل.. وأحيانًا تعيش بشخصيّة مزدوجة؛ في الكنيسة بشكل وخارجها بشكل آخر.. أو تُغلِّف شهواتها الأرضيّة وكبرياءها بغلاف البرّ والوداعة الكاذبة!

    الله يطلب إخلاصًا حقيقيًا له في المحبّة، وفي الالتزام بالوصيّة، وفي تتميم الشهادة له وتمجيد اسمه هو وحده..

    القلوب الأمينة المُخلِصة تكون لها دالة عظيمة عند الله، ويفيض عليها بنوره الحلو فتستنير وتنير أيضًا للآخرين..

    الخُلاصة أنّ كلّ نفس تُهيِّئ مصباحها، وتتّضع أمام الله، بقلب أمين غير منقسم، وتعشق الوقوف أمام الله، وتُحسِن الإصغاء لصوته.. يضيء فيها سراج الله بقوّة حتى تستنير الأرض كلّها من شِدّة البهاء.. حتّى الموت لا يستطيع أن يُطفئ هذا النور، بل سيظلّ يضيء لكلّ الأجيال، وإلى الأبد أيضًا.. كمّا علّمنا ربّنا يسوع: "يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت43:13).
القمص يوحنا نصيف