نسيم مجلى
 
شعر أمل دنقل
لاتحلموا بعالم سعيد         فخلف كل قيصر يموت قيصر جدي
  ولف كل ثائر يموت      أحزان بلا جدوى ودمعة سدى
 
 حدث التحول الحقيقى فى مسيرة أمل دنقل الشعرية بقصيدة "كلمات اسبارتاكوس الأخيرة " فى ابريل سنة 1962 م وهى أولى قصائده الكبرى التى صنعت مجده وحققت له الشهرة. فقد جاءت القصيدة اعلاناً عن مولد شاعر أصيل ومجدد وأصبحت علامة فارقة بين مرحلتين فى شعره. 
 
قبلها كان شعره يجرى فى الأغراض الرومانسية التقليدية ليعبرعنانعكسات وجدانه إزاء همومه الذاتية الخاصة وذلك من خلال أساليب تعبير تقليدية أيضاً.
 
 أما "كلمات اسبارتاكوس الأخيرة " فهى تؤكد على حدوث تحول كبير نحو القضايا السياسية والاجتماعية وعلى الأخص قضية الحرية الإنسانية بمعناها الأساسى المتمثل فى حرية الاعتقادوالتعبير والتفكير والرفض.
 
  ومن بداية القصيدة تجد الكثير حقاً الذى يصدمك ويدهشك 
ويدفعك إلى تقليب الذاكرة وإعادة النظر فيما قرأت من أشعار وما حفظت من مأثورات.
: المجد للشيطان. معبود الرياح .... (1)
من علم الإنسان تمزيق العدم 
من قال " لا " فلم يمت، 
وظل روحا عبقرية الألم!
 
 الإنجيل يقول " المجد لله في الأعالى"لكن أمل يقول "المجد للشيطان معبود الرياح ..."لم يكفر أمل وليس في كلامه إنكار للإيمان لأن الملحدون لا يؤمنون بوجود الشيطان أصلا على أساس إنكارهم لله ولعالم الغيب تماما والمؤنون فقط هم الذين يعترفون بوجود الشيطان ويعتقدون أنه عدو لهم.فالشاعر يبحث عن معادل موضوعى يجسد فكرة التمرد الإنسانى،وهذا تقليد أدبى سار عليه كبار الشعراء مثل الشاعر الألماني جيته في قصته " دكتور فوستس" والكاتب الإنجليزىمارلووكذلك الشاعر العظيم جون ميلتون في ملحمة " الفردوس المفقود " التي ترجمها الدكتور محمدعنانى ،وكلهم يصورون الشيطان متمردا وقادرا على العصيان .هذه ملاحظة ضرورية بالنسبة للذين كفروا الأستاذة الجامعية وفصلوها  من وظيفتها بسبب قراءتها لهذا الشعر وشرحه لطلبتها .
 
فالشاعرأملدنقلهنا يتكلمبلسان اسبارتاكوس ذلك العبد الذى قاد ثورة العبيد ضد طغيان الارستقراطية الرومانية الاقطاعية فى القرن الأول قبل الميلاد، وشنق بالقرب من أبواب روما . معبرا عن موقفه ... و هو يمجد الشيطان رمز التمرد الخالد ونموذج العصيان القاطع فى وجه جمهرة الخائفين والخاضعين ... و يرى أن عصيانه كان سبباً فى تمزيق العدم والظلام وبداية التحضر والعمران ... و هى بداية ظهورالإرداة الانسانية ... و بداية مسيرة التطور ... فعصاينه كان بداية لعصر المعرفة الانسانية ... منذ تلك اللحظة، أخذ يتضح معنى الخير و الشر ... وللعقاد جملة جميلة فى كتابه " ابليس " إن معرفة ابليس كانت فاتحة خير للانسان .
 
  وأمل دنقل هنا يشبه الشاعر الإنجليزى ميلتون فى ملحمة "الفردوس المفقود " حيث يصور الشيطان قادراً على العصيان والتحدى ... والواقع أن أمل دنقل لا ينوى طبعاً تمجيد الشيطان وإنما يخلق معاًدلا موضوعيا يجسد دعوته للتمرد والعصيان ... و بناء القصيدة كله يجد مفتاحه فـى فهم هذه المفارقة " المجد للشيطان "  التى تنقض تقليدنا الموروث والراسخ " اللعنة على الشيطان "  إذ لا نكاد نمضى فى قراءة
 
(1) " المجد لله فىالأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة " انجيل لوقا ( الإصحاحالثانى عدد 14 ) ( 2 : 14
 
المطلع التالى حتى يفاجئنا بمفارقة أخرى ....
معلق أنا على مشانق الصباح 
و جبهتى– بالموت – محنية 
لأننى لم أحنها .... حيـــــــا! 
 ولا نكاد نسمع هذه الكلمات ونتأمل صورة اسبارتاكوس المعلق على الصليب حتى نجد أنه قد رفعنا جميعاً إلى جانبه معلقين على مشانق القيصر أو مشانق السلطة الطاغية. وهكذا ينكشف وجه المأساة على حقيقته فإذا هى ليست مأساة فرد تمرد بل مأساة الغالبية المستضعفة والمضطهدة فى آن واحد ... و كماوحد نفسه مع اسبارتاكوس وحد بين جماهير الإسكندرية فى القرن العشرين ... وبين عبيد روما فى القرن الأول قبل الميلاد ... 
 
يا أخوتى الذين يعبرون فى الميدان مطرقين 
منحدرين فى نهاية المساء
فى شارع الإسكندر الأكبر
لا تخجلوا ولترفعوا عيونكم إلى 
لآنكم معلقين جانبى ... على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إلى ....
لربما إذ التقت عيونكم بالموت فىعينى
يبتسم الفناء داخلى ... لأنكم رفعتم رأسكم مرة!
" سيزيف " لم تعد على أكتافه الصخرة 
يحملها الذين يولدون فى مخادع الرقيق
والبحر ... كالصحراء لا يروى العطش 
لأن من يقول " لا " لا يرتوى إلا من الدموع 
فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق.
فسوف تنتهون مثله غدا. 
فالإنحناء مر
والعنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى 
 
       هذا الكلام يحمل التحريض على الرف-ض والتمرد والثورة لأن العسف والقهر ليس قدرأ محتوماً على البشر ... فسيزيف لم يعد يحمل الصخرة ... بل أصبح يحملها فقط الذين يولدون فى مخادع العبيد ... و لهذا يدعوهم لرفع الرؤس .. فالجميع مشنوقون سواء ثاروا أو لم يثوروا وهذا ما يعنيه بقوله " فالإنحناء مر ... والعنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى " وإذا كانت حياة الذلة والخنوع طريقاً للموت .... فلتكن الثورة وليكن التحدى شرفاً للانسان وطريقاً للألم الأبدى !
 
ولا نكاد نطمئن إلى هذا المعنى حتى يفاجئنا الشاعر بمعنى مخالف تماما حين يقول
فقبلوا زوجاتكم ... إنى تركت زوجتى بلا وداع 
وإن رأيتم طفلىالذى تركته على ذراعها 
فعلموه الإنحناء؟
فعلموه الإنحناء!
الله لم يغفر للشيطان حين قال لا !
والودعاء الطيبون 
هم الذين يرثون الأرض فى نهاية المدى 
لأنهم لا يشنقون!
فعلموه الإنحناء
و ليس ثم من مفر 
و لا تحلموا بعالم سعيد 
فخلف كل قيصر يموت: قيصر جديد!
وخلف كل ثائر يموت: أحزان بلا جدوى 
ودمعة سدى 
 
 
 و قد يدهشك هذا الكلام الأخير، لأنه يبدو مناقضاً جداً للمقطع الأول فتتساءل كيف أمكنه ان يتحول من النقيض إلى النقيض، حتى أصبح داعية للخنوع والإنحناء مقراً بعبثية الرفض والثورة .. وإلا كيف يمكنه ان يقول "و خلف كل ثائر يموت: أحزان بلا جدوى ودمعة سدى " أليس هذا شبيهاً بما قاله سليمان الحكيم حين صاح صيحته اليائسة " باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس "  .... أو ما قاله المعرى " تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب فى إزدياد " 
 
         هكذا يبدو الأمر ربما للنظرة الأولى ... و لكن مع التأمل العميق لأبيات أمل دنقل نجده لا يتطابق أبداً مع هذه الرؤى التى تؤكد عبثية الحياة وخيبة امل الإنسان.
 
     والواقع أن الشاعر يستخدم النقيضين ساخراً سخرية مريرة بواقع الإنسان، وبالبدائل المطروحة أمامه . وهو يستخدم هذا الأسلوب المغرب أو الغريب لكى يستوقف قارئه ويستفز مشاعره وعقله حتى يفكر فى مأساة حياته. أنها حيلة من حيل الإغراب ترمى إلى تغريب – واقع الإنسان فى مجتمعه ... وحين يبدو هذا الموقف شاذا أو غريبا ... فإنه يدعو للتغير الشامل ... وهذا ما يتضح فى الفقرة التالية ... حين يمعن فى دهائه الفنى ويعتذر لقيصر عن خطئه ويهديه جمجمته ليصنع منها كأساً لشرابه ... ولكنه يحذره من الاستمرار فى قطع الأشجار. فقد يحتاج يوماً ما إلى الظل. 
 
 
و هو يستخدم اسم قيصر رمزا لكل طاغية ... وبالمقابل يستخدم هانيبال البطل البربرىالافريقى كرمز للمخلص ... فهانيبال خرج من قرطاجة .... ورد عدوان روما ... بل وزحف حتى أبواب روما نفسها ... والشاعر ينتظر أن يخرج من بيننا هانيباللكى يتصدى للمعتدين الغزاة.. لكن دون جدوى ... وهذا ما نفهمه من قوله: 
 
وإن رأيتم فى الطريق " هانيبال " 
فأخبروه اننى انتظرته مدى على أبواب روما المجهدة
و انتظرت شيوخ روما ...
تحت قوس النصر قاهر الأبطال
و نسوة الرومان بين الزينة المعربدة: 
ظللن ينتظرن مقدم الجنود 
ذوىالرؤس الأطلسية المجعدة 
لكن " هانيبال " ما جاءت جنوده المجندة 
فاخبروهأننى انتظرته ... انتظرته
لكنه لم يأت! 
و أننى انتظرته ... حتى انتهيت فى حبال الموت 
و فى المدى " قرطاجة " بالنار تحترق.    
  و لأن امل دنقل شاعر فنان، فإن الصورة فى شعره مركبة .  تحمل فى تضاعيفها كثيراً من الخطوط و الألوان .... ولا تعطى معناها دفعة واحدة .... بل تحتاج إلى كثير من التأمل ولتدقيق ... وهذا ناتج عن ثقافة واسعة عميقة وعقل مفتوح يعرف كيف يحلل التاريخ والواقع ويفهمه بعيداً عن التعصب والانغلاق ... و لهذا نجده يقدم صوراً مركبة لروما فهى ليست رمزاً شاملا للشر أوالطغيان.. فإذا كان قيصر هو الدكتاتور الذى كان يعمل على القضاء على الجمهورية والديموقراطية ... فإن شيوخ روما ... هم رمز يجسد الجانب الأخر من روما ... وهو الديموقراطية ... ومن ثم جاء انتظاره لشيوخ روما كما انتظر هانيبال– لكنهم لم يسرعوا لإنقاذه أو لإعلان حريته ... وهذا يعنى أن الحرية أو الخلاص لم يأت من داخل روما عن طريق الشيوخ ... ولا من خارجها عن طريق هانيبال ... فشنق اسبارتاكوس ... وسقطت قرطاجة فى جوف الحريق ... و بهذا يمهد للفقرة الأخيرة حين يوحد بين عبيد روما المضطهدين فى شخص اسبارتاكوس ... و كل المناضلين ضد الديكتاتورية والقهر والطغيان . 
 
" قرطاجة" كانت ضمير الشمس.. قد تعلمت معنى الركوع  
والعنكبوت فوق أعناق الرجال
والكلمات تختنق
يا أخوتى :  قرطاجة العذراء تحترق 
فقبلوا زوجاتكم 
إنى تركت زوجتى بلا وداع 
و إن رأيتم طفلى الذى تركته على ذراعها.. بلا وداع 
فعلموه الإنحناء 
علموه الإنحناء 
علموه الإنحناء  
 
و لا يصح أبداً أن يفهم من هذه الأبيات الأخيرة أنها " تعطى للقارئ " المعنى المحدد أو (الرسالة التى يريد الشاعر توصيلها كحقيقة لا تقبل أكثر من تفسير) كما قال الأستاذ أحمد طه فى مقاله (1) لأن المفارقة فى هذه القصيدة، مركبة من عدة مفارقات: مفارقة فى بناء القصيدة الداخلى بين عبارة " المجد للشيطان " فى مطلعها و"علموه الإنحناء " فى منتصفها أو فى نهايتها، إلى جانب المفارقة القائمة فى ذهن القارئ بين ما تقوله هذه المقاطع كل على حدة والواقع الخارجىفى الحياة والمجتمع.
 
و لكى نفهم هذا الأسلوب بطريقة أوضح وجب علينا أن نقرأ ما يقوله الدكتور لويس عوض عن هذه القصيدة (2) : " هناك نوع من التهكم الخفى الذى يقصد إليه الشاعر سواء فى تمجيده لشموخ أعظم العصاة او فى تبشيره بضرورة  الإنحناء والإنهزامية بغير قيد أو شرط ، وهذا التهكم الخفى مجسد فى المقابلة يقيمها بين الرفض الأعظم و القبول الأعظم وإلا كانت دعوته فى آن واحد عبادة للشيطان و لعنة على البشر . 
 
و هذه طريقة شعراء الرفض إذن فى التعبير عن احتجاجهم على الواقع المرفوض.. وهم يؤلبون الطغاة على الطغيــــــــان
(1) أحمد طه –قرأة النهاية – مجلة ابداع اكتوبر سنة 1983 م
(2) د. لويس عوض – شعراء الرفض – الأهرام 7/7/1972 م 
 
بتمجيد الطغيان وهم يؤلبون العبيد على العبودية بتمجيد العبودية .... وهذه بلاغة الأضداد ".