محرر الأقباط متحدون
في رسالته إلى المشاركين في الجمعية العامة للأكاديمية الحبرية للحياة يتناول البابا فرنسيس الواقع الحالي الذي تتشابك فيه الحروب والأوبئة والتغيرات المناخية ومخاطر التقنيات الجديدة، ويؤكِّد: "أن التكنوقراطيّة وحدها لن تنقذنا". ويشير إلى "التراجع التدريجي لأهمية الهيئات الدولية"، ويدين "قانون الأقوى" باعتباره يجرّد الإنسان من إنسانيته.

بمناسبة انعقاد الجمعية العامة للأكاديمية الحبرية للحياة وجّه قداسة البابا فرنسيس رسالة إلى المشاركين كتب فيها في الجمعية العامة لهذا العام، قررتم تناول القضية التي تُعرف اليوم باسم "الأزمة المتعددة". هذه القضية تتعلق ببعض الجوانب الأساسية من أبحاثكم في مجالات الحياة، والصحة، والرعاية. إن مصطلح "الأزمة المتعددة" يذكّر بمأساويّة الظرف التاريخي الذي نعيشه، والذي تتلاقى فيه الحروب، والتغيرات المناخية، ومشاكل الطاقة، والأوبئة، وظاهرة الهجرة، والابتكار التكنولوجي. إن تشابك هذه الأزمات، التي تلمس أبعادًا مختلفة من الحياة في آنٍ واحد، يدفعنا إلى التساؤل حول مصير العالم وفهمنا له.

تابع البابا فرنسيس يقول إن أول خطوة ينبغي اتخاذها هي أن نفحص بعمق أكبر كيف نصوّر العالم والكون. فإذا لم نقم بذلك، ولم نحلّل بجدية مقاومتنا العميقة للتغيير، سواء كأفراد أو كمجتمع، فسنواصل في تكرار ما فعلناه مع أزمات أخرى، حتى تلك القريبة جدًا منا. لنفكّر في جائحة فيروس الكورونا: لقد "أضعنا" هذه الأزمة، إذ كان بإمكاننا أن نعمل بجدية أكبر على تحويل الضمائر والممارسات الاجتماعية. أما الخطوة المهمة الأخرى لتفادي الجمود والبقاء أسرى ضماناتنا وعاداتنا ومخاوفنا، فهي الإصغاء باهتمام إلى مساهمات المعرفة العلمية. إنَّ موضوع الإصغاء حاسم، وهو من الكلمات الأساسيّة في المسار السينودسي الذي بدأناه والذي بات الآن في مرحلة التنفيذ. لذا، أقدّر أنكم تعتمدون في منهج عملكم هذا الأسلوب، وأرى فيه محاولة لممارسة "النبوءة الاجتماعية" في مجالكم الخاص، وهو ما ركّز عليه السينودس أيضًا. ففي اللقاء مع الأشخاص والإصغاء إلى قصصهم، وكذلك في الإصغاء إلى المعرفة العلمية، ندرك إلى أي مدى تحتاج معاييرنا المتعلقة بالأنثروبولوجيا والثقافات إلى مراجعة عميقة. ومن هنا، جاءت أيضًا فكرة إنشاء مجموعات دراسية حول بعض المواضيع التي برزت خلال المسار السينودسي. وأعلم أن بعضكم يشارك فيها، مستفيدًا كذلك من العمل الذي قامت به الأكاديمية في السنوات الماضية، وهو عمل أنا ممتن لكم عليه كثيرًا.

أضاف البابا فرنسيس يقول إن الإصغاء إلى العلوم يزوّدنا باستمرار بمعرفة جديدة. فلو نظرنا إلى ما تكشفه لنا حول بنية المادة وتطور الكائنات الحية، لوجدنا أن الطبيعة تُفهم اليوم بصورة أكثر ديناميكية مما كانت عليه في زمن نيوتن. لذا، يجب أن نعيد التفكير في مفهوم "الخَلق المستمر"، مدركين أن التكنوقراطيّة وحدها لن تنقذنا. فالاستسلام لنهج عدم التنظيم العالمي ذي الطابع النفعي والنيوليبرالي يعني فرض "قانون الأقوى" كقاعدة وحيدة، وهو قانون يجرّد الإنسان من إنسانيته. يمكننا أن نأخذ مثالًا على هذا النوع من بحث الأب بيير تيار دي شاردان، الذي سعى – رغم أن محاولته كانت جزئية وغير مكتملة، إلا أنها كانت جريئة وملهمة – إلى الدخول في حوار جاد مع العلوم، ممارسًا نهجًا عابرًا للتخصصات. لقد كان مسارًا محفوفًا بالمخاطر، دفعه إلى التساؤل: "أتساءل ما إذا لم يكن من الضروري أن يلقي أحدهم حجرًا في البركة – أو حتى أن يضحّي بنفسه لكي يفتح المسيرة". وهكذا، أطلق رؤاه التي وضعت في المحور مفهوم العلاقة والتشابك بين جميع الأشياء، ووضع الإنسان العاقل (homo sapiens) في ارتباط وثيق مع كامل منظومة الحياة.

تابع البابا فرنسيس هذه الطرق في تفسير العالم وتطوره، وما يرافقها من أشكال غير مسبوقة للعلاقات، يمكنها أن تمنحنا علامات رجاء، تلك التي نبحث عنها كحجاج خلال سنة اليوبيل هذه. إن الرجاء هو الموقف الأساسي الذي يعضدنا في مسيرتنا. وهو لا يعني أن ننتظر باستسلام، وإنما أن ننطلق بشغف نحو الحياة الحقيقية، التي تحملنا أبعد بكثير من الأفق الضيق للفردية. وكما ذكرنا البابا بندكتس السادس عشر، فإن الرجاء مرتبط في كوننا في اتحاد وجودي مع "شعب"، ولا يمكنه أن يتحقق لكل فرد إلا داخل هذا الـ"نحن". ولهذا البعد الجماعي للرجاء، وإزاء أزمة معقدة وعالمية، نحن مدعوون لتعزيز الأدوات التي تمتلك بعدًا عالميًا. ولكن للأسف، نحن نشهد تراجعًا متزايدًا لدور الهيئات الدولية، التي تتعرض للتقويض بسبب مواقف قصيرة النظر، إذ تسعى فقط لحماية المصالح الخاصة والوطنية. ومع ذلك، علينا أن نواصل التزامنا بحزم من أجل "منظمات عالمية أكثر فاعلية، تتمتّع بسلطة تضمن الخير العام العالمي، والقضاء على الجوع والفقر، والدفاع الأكيد عن حقوق الإنسان الأساسية". وبهذه الطريقة، نحن نساهم في تعزيز تعددية أطراف لا تخضع للظروف السياسية المتغيرة أو لمصالح قليلين، ويكون لها فاعلية مستقرة. إنه واجب عاجل يطال البشرية جمعاء.

وختم البابا فرنسيس رسالته بالقول هذا الأفق الواسع من الدوافع والأهداف يشكل أيضًا إطار عمل جمعيتكم وعملكم، أيها الأعضاء الأعزاء في الأكاديمية الحبرية للحياة. أوكلكم إلى شفاعة العذراء مريم، كرسي الحكمة وأم الرجاء، "فيما نسير بثقة، كشعب حاج، شعب الحياة ومن أجل الحياة، نحو "سماء جديدة وأرض جديدة". وأستمطر عليكم جميعًا وعلى عملكم فيض البركة الرسوليّة.