القمص يوحنا نصيف
    قيل في الإنجيل، أنّ الرب بعد أن اعتمد من يوحنّا السابق، اقتاده الروح إلى البرّيّة.
    بدء حركة الصوم تكمن في الامتلاء من الروح والاقتياد بالروح.
    لا يبدأ الصوم من جهة الجسد؛ مِن جهة الانقطاع عن الطعام والشراب..
    ولكن يبدأ بإلهام الروح.. حالة الملء، وحالة الخضوع والانقياد!
    بدون ملء الروح، يتفرَّغ الصوم من مضمونه الحقيقي.
    الروح حالّ فيك.. فكيف تمتلئ منه؟
    الروح ساكن فيك، فكيف تنقاد به؟
    هذا هو الأمر الواجب.

    إنّ الامتلاء بالروح -في شقّه السلبي- معناه التفرُّغ والتخلّي والترك والاستغناء، عن كلّ ما هو مِن شأنه أن يملأ العقل والقلب، ويَشغَل الحَيِّز الكياني الداخلي، ويملك على الإنسان.. (للأسف لم يستكمل أبونا هذه الجملة في مذكّراته).

* صوم الربّ:
    صام الربّ عنّا أربعين نهارًا وأربعين ليلة.. هذا هو التدبير الإلهي السابق على الزمن.. فقد كان كلّ ما حَدَثَ في حياة الربِّ معروفًا سابقًا قبل كونِ العالم، بحسب كلام بطرس الرسول (1بط1: 20).

    إذن زمان الصوم ومدّته وكيفيّته لم يحدث جُزافًا، لذلك احتل صوم الربّ منذ فجر المسيحيّة اهتمامًا بالغًا من الرسل الأطهار، ثمّ مَن أتَى بعدهم.
لذلك لم يحدِّد بشرٌ ما في كنيسة ما في أنحاء المسكونة، مُدّة هذا الصوم الأربعيني المقدس.. لأنّ الربّ نفسَه صامَه.

    ونحن نقول في صلوات القُدّاس أنّ الربّ صامه عَنّا بِسِرٍّ لا يُنطَقُ به؛ إذن الأمر لا يَخضَع لفَحصِ العقلِ كيف صام الربّ هذه الأربعين نهارًا والأربعين ليلةً فوق جبل التجربة؟!

    بل لأجل منفعتنا نقترب إلى هذا الصوم بإيمان وتوبة، ونِيّة صادقة، لكي نتمتّع بما هو مُذَّخَر لنا، وما استودعه لنا الربّ بصومه، لكي نحيا فيه، لا لكي نَفحَص أو نُدرِك هذا السرّ الخفيّ.

    إذن هناك سرّ الصوم.. فإن أخذتَه صِرتَ في معيّة الربّ، تَستَنِدُ وأنت صائم على مَن صام عَنّا.

    + في البداية ستواجِه صعوبة شديدة لأنّك لم تتعوّد على هذا الهدوء والسكون الداخلي.. لسبب كثرة ما ضَيَّعتَ مِن السنين في الزحام والصَّخَب.

اصبرْ.. وتَجَلَّدْ ولا تَترُك المخدع.. اجلِسْ صامِتًا إلى أن تَهدَأ نفسك، وتتعوَّد حواسَّك على السكون.

    + لقد عِشتَ سنواتٍ هذا عددها خارجًا عن نفسك، ومنشغِلاً بما هو خارج عنها.. حياة الخارج شيء، وحياة الداخل شيء آخَر.

    + ربّما تملّ أو تزهق.. إن النفس لا تقبل البرّيّة بسهولة، فحياة الضوضاء تُلهِيها..

    + إنّ البرّيّة تَكشِف عيوب النفس وتُظهِر عوارَها.. والنفس تريد الإفلات لكي تلهو بعيدًا عن المحاسبة.. إيّاك أن تَدَعها تفلت.

    + النفس تلتمس الأعذار دائمًا وفي جميع الأحوال، لكي تُزَكِّي ذاتها..

    + في البرية لا يوجد أعذار.. فاحرِص أن ترى نفسك على حقيقتها ولا تنخَدِع..
(يُتَّبَع)
القمص لوقا سيداروس