الأنبا إرميا
«كنت أود أن أعيش غريبًا وأموت غريبًا، لٰكن لتكُن إرادة الله»؛ لقد أراد أن يصير متغربًا عن العالم، لا يعرفه أحد، لٰكن الله أراد لهذا الغريب أن تنتشر رائحة حياته الذكية إلى أنحاء المسكونة!! إنه البابا كيرلس السادس، بطريرك الكرازة المرقسية السادس عشر بعد المائة، الذى يفوح بعد أيام قليلة عطر ذكراه فى كل أرجاء «مصر»، ليحتفل أقباطها بعيد نياحته فى التاسع من مارس.

فى مطلع القرن الماضى، شهِدت بلدة «طوخ النصارى» بدمنهور ميلاد الطفل «عازر» وتحديدًا يوم ١٩٠٢/٨/٨م. ارتبط «عازر» بالكنيسة وبرجال الكهنوت وبالآباء الرهبان الذين اعتادوا على زيارة منزل والده. ومع مرور الأيام، تنمو محبة الله فى قلب «عازر» حتى انشغلت أفكاره بالحياة السمائية. وعلى الرغم من نجاحه فى عمله وشهادة رؤسائه له بجهده وأمانته، فإن شهوة الحياة الكاملة مع الله قد ملكت كل كِيانه حتى اشتهى أن يترك حياة العالم ليحقق ما تصبو إليه نفسه فى حياة الرهبنة. وبالفعل أطاع شهوة قلبه صبيحة ١٩٢٧/٧/٢٧م فتوجه إلى دير القديسة السيدة العذراء بوادى النطرون «البَرَموس». وفى يوم ١٩٢٨/٢/٢٥م رُسّم راهبًا باسم «مينا»، ثم قسًّا فى ١٩٣١/٧/١٨م. عكف الراهب «مينا البَرَموسى» على حياة الصلاة، حتى اشتاق إلى حياة الوحدة فتوحد بمغارة بالصحراء تبعد عن الدير مسافة ساعة سيرًا على الأقدام، ثم توحد بطاحونة بمصر القديمة. وهكذا صارت حياته صلاة كاملة، فكان يصلى كل مساء وصباح، مؤمنًا بقدرة الصلاة، حتى فاض قلبه يقول: «الصلاة قادرة على كل شىء، لأنها تحرك اليد التى تدير الكون، تفتح باب السماء، وتجعل للمؤمنين نصيبًا فى جميع الخيرات».

اهتم «أبونا مينا المتوحد» بخدمة الآخرين ورعايتهم، وبخاصة الغرباء، فقام ببناء مسكن للطلبة، واهتم بالشباب والخدام، شاملاً إياهم برعايته وأبوته. ولم يتوقف عن الاهتمام بالخدمة الموكولة إليه حتى بعد أن صار بطريركًا على الكرسى المرقسى، فقد كان يستقبل شعبه مستمعًا إلى كل إنسان ومصليًا من أجل الكل، فكان لقاؤه يفرح قلوب أبنائه ويملؤهم بالسلام.

ثم كان أن اختارت العناية الإلهية «أبونا مينا المتوحد» ليتحمل مسؤولية رعاية الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فى وقت دقيق صعب على البلاد والكنيسة؛ فرُسم بطريركًا باسم «كيرلس السادس» فى ١٩٥٩/٥/١٠م. ولم تكُن حياة هذا القديس البابوية سهلة، بل تعرض لكثير من المشكلات والمضايقات، لكنه كان فى أبوته يرعى ويهتم بكل نفس فى محبة للجميع، وبالأكثر لمن أساؤوا إليه، مطيعًا وصية السيد المسيح: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَى تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِى فِى السَّمَاوَاتِ»؛ لقد كانت أعماقه ممتلئة سلامًا وتعزيةً وكان الله حصنه وملجأه فى كل وقت، حتى إنه قال: «لا شىء تحت السماء يكدرنى أو يزعجنى! لأنى مُحْتَمٍ فى ذلك الحصن الحصين، داخل الملجأ الأمين، مطمئن فى أحضان المراحم، حائز ينبوع من التعزية»؛ كان واثقًا أن الله الذى اختار له الطريق لن يتركه أبدًا فى وسطه.

أما عن دور «البابا كيرلس السادس» الوطنى فمحفور فى الصدور قبل السطور؛ لقد اهتم بكل ما مر بالوطن من أمور وأزمات، وتجلى حسه الوطنى خاصة بعد عُدوان ١٩٦٧م، وأخذ يولى قضية «القدس» اهتمامًا كبيرًا. لقد فاضت رسائله وبياناته البابوية وطنيةً فى ندوات ومؤتمرات شعبية شارك فيها لأجل «مِصر»، بإيمان حقيقى نابع من قلب نابض بحبها؛ فقد جاء فى رسالته الأولى إلى رعيته: «ما أحوج البشر إلى خدمة الروح، فى عصر سادت فيه المادية والكفر والإلحاد والاتجاهات الفكرية المنحرفة! ما أحوج الناس إلى أن يروا المسيح فى حياتنا، ويشتَمّوا رائحته الذكية فينا! إن على الكنيسة واجبًا خطيرًا فى هذه الآونة التى يجتازها العالم اليوم: عليها أن تدعم الإيمان فى القلوب، وتنشر الفضيلة، وتُدخل السلام والطمأنينة إلى كل نفس متعبة، ليتوافر الاستقرار، وتكثر السعادة. لأن رسالة السيد المسيح هى توفير الحياة الفضلى للناس: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ»؛ الحياة الطاهرة النقية، الهادئة المطمئنة، الفاعلة التى تُكَوِّن المواطن الصالح المنتج، والعضو العامل بالكنيسة، الذى يعرف أن يكون أمينًا دائمًا لله وللوطن وللمجتمع الإنسانى العالمى، متعاونًا مع الجميع بروح التعاون والإخاء والإيثار».

وفى صباح الثلاثاء ١٩٧١/٣/٩م، انطلق القديس «البابا كيرلس السادس» من عالمنا، مستودعًا رعيته فى يد الله، وكلماته المعزية فى القلوب مترددة: «كُن مطمَئنًّا جدًّا جدًّا، ولا تفكر كثيرًا، بل دَع الأمر لمن بيده الأمر»، و... والحديث فى مصر الحلوة لا ينتهى!

* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم