بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر


الأبناء الذين يصلون للآب السماوى يعلّمهم الرب أن يختموا صلاتهم قائلين : " ولا تدخلنا فى تجربة".

الكلمة "تجربة" أتت من الفعل "جرّب" الذي يعني امتحن، اختبر، وُضع في امتحان. وبالمعنى السيء تعني أطلب أن أضلّ. وبالتالي التجربة تعني كلّ ما يجربنا والذي يضعنا في التجربة والامتحان، ويطلب أن يضلّنا ويقودَنا بعيداً عن الله.

التجربة في الكتاب المقدس ليست وهمًا، لكنّها شخص خاص، لهذا وُصف الشيطان "بالمجرّب". وهذا "المجرّب" جرّب المسيح في الصحراء بالتجارب الثلاثة المعروفة، وطبيعي أن ينتصر المسيح عليها، لأنّ الطبيعة الإنسانية للمسيح متحدّة بالطبيعة الإلهيّة، ولم يستطع الشيطان أن ينتصر على الإطلاق.

فهذا يقول القديس كيرلس: إن طلب عدم الدخول فى التجربة لا يعنى الجبن أو التكاسل، بل يعنى اعترافًا بخطورة التجارب التى يسوقها الشيطان، فيقول [ إن عنف التجربة قد يهز أحيانًا عقل أشد الناس شجاعة ]، ويحذر من الثقة فى النفس بزيادة بل [ يجب أن نعرف ضعف ذهننا ]، ويقول [ فلنصل أن لا نُجَرَّبْ .. ولكن إذا ما دعت الضرورة وأُلقينا فيها رغمًا عنا فلابد أن نبذل أقصى جهدنا ونصارع من أجل نفوسنا .. طالبين معونة الرب لنا ]. ويذكر نوعين من التجارب : تجارب تأتى من الهراطقة . او تجارب تأتى من  الخطية .

" الذين يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودعون أنفسهم لخالق أمين "، (1بط15:4) [ إن كان يتألم كمسيحى فلا يخجل بل يمجد الله ]، وأن الذين يحتملون هذه الآلام ينالون الأكاليل. " جاهدت الجهاد الحسن .. وأخيرًا وُضع لى إكليل البر " (2تى7:4). وعن تجارب الخطية يقتبس (يع13:1ـ15) " كل واحد يُجرب إذا انجذب ينخدع من شهوته..". وهناك أيضًا تجارب " حب الربح المادى " و" حب الاكتناز الخسيس ". [ لذلك يليق بنا حسنًا نحن المُعَرَّضين لمثل هذه الشرور الخطيرة حتى إن لم نكن قد سقطنا فيها بعد، أن نصلى قائلين " لا تدخلنا فى تجربة لكن نجنا من الشرير"]. والله الذى نحبه أكثر من أى شئ سوف يعيننا ويهبنا النصرة فهو مخلص الكل.

      يقول إيضا القدِّيس كيرلس الأورشليمي: ربَّما تعني لا تدع التجربة تغمرنا وتجرفنا باعتبار التجربة سيلاً عارمًا يصعب اجتيازه، فالذين لا تغمرهم التجربة يجتازون السيل كالسبَّاحين الماهرين الذين لا يتركون التيَّار يجرفهم.

    أما القدِّيس باسيليوس يقول : لا يليق بنا إن نطلب الضيقات الجسديَّة في صلواتنا، إذ يأمر المسيح البشر بوجه عام إن يصلُّوا كي لا يدخلوا في تجربة، لكن إن دخل أحد فعلاً فيلزمه إن يطلب من الرب قوَّة اِحتمال لتتحقِّق فينا الكلمات: "الذي يصبر إلى المنتهي فهذا يخلُص" (مت 10: 22).

يميِّز العلامة ترتليان: بين التجربة التي هي بسماح من الله، وهي لا تعني "تجربة" بالمفهوم العام إنما "امتحان" لأجل تزكيتنا، أما عدو الخير فيجُرِّبنا بمعنى أنه يخدعنا، وكأننا نصلِّي ألا ندخل في تجربة بمعنى: أن يسندنا ضد حِيَل إبليس وخداعاته.

هنا يطلب المؤمن من السيّد ألا يدخل تحت ثقل التجربة خلال ضعفه البشري، ومن ناحية أخرى يسأله أن ينجّيه من العدوّ الشرّير، أي الشيطان. حقًا إن المؤمن يدرك إمكانيّات الله أبيه العاملة فيه للغلبة والنصرة بالمسيح يسوع ضدّ الخطيّة والشيطان، لكنّه لا يندفع نحو التجربة، ولا يشتهيها، بل في تواضع يطلب أن يسنده داخليًا حتى لا ينهار ويسنده من الخارج فينقذه من الشيطان الشرّير.

الله لا يريد النفس المتشامخة التي في تهوّر لا تحتاط من التجربة، إنّما يريد النفس المتواضعة، فيكون نصرتها بالله أكثر مجدًا، وهزيمة الشيطان أكثر تأكيدًا.

      القدّيس أغسطينوس:من يُهزم من التجربة يرتكب الخطيّة، لهذا يقول يعقوب الرسول: "لا يقل أحد إذا جُرِّب إني أجرَّب من قبل الله، لأن الله غير مُجرِّب بالشرور وهو لا يجرِّب أحدًا. ولكن كل واحد يجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطيّة، والخطيّة إذا كملت تنتج موتًا" (يع 1: 13-15). فإذا لا تنجذبون إلى شهوتكم لا تقبلونها...

الله لا يجرِّب أحدًا بالتجارب التي تخدعنا وتضلّنا، ولكن بدون شك في أعماق عدله يتخلّى عن البعض، فيجد المجرِّب فرصته، لأنه لا يجد فيها مقاومة. وإذ يتخلّى الله عنهم يتقدّم المجرِّب نفسه كمالك لهم. لهذا نقول "لا تدخلنا في تجربة" لكي لا يتخلّى الله عنّا... ماذا يعلّمنا الرسول يعقوب! إنه يعلّمنا أن نحارب شهواتنا...

لا يخيفكم أي عدوّ خارجي! انتصروا على أنفسكم، فتغلبوا العالم كله! لأنه ما هو سلطان المجرِّب الخارجي عليكم، سواء أكان الشيطان أم خادمه؟ إن وُضع أمامكم الأمل بالربح بقصد إغرائكم للخطيّة لا يجد فيكم الطمع، فلا يقدر أن يفعل بكم شيئًا... أمّا إن وُجد فيكم الطمع، فإنكم تحترقون عند إغرائكم بالمكسب وتُصطادون بطعم فاسد... وإن وضع أمامكم نساء فائقات الجمال، فإن وُجد فيكم العفّة داخلكم تَغلبون الظلمة الخارجية. حاربوا شهواتكم الداخليّة فلا يقتنصكم بطُعم إمرأة غريبة.

إنكم لا تدركون عدوّكم، لكنكم تُدركون شهواتكم... فلتسيطروا على ما تلمسونه داخلكم.
في هذه الكلمات يظهر عجز الخصم عن فعل أي شيء ضدّنا ما لم يسمح له الله بذلك، لهذا يتحوّل خوفنا وتقوانا وطاعتنا إلى الله، إذ في تجاربنا لا يصيبنا شيء لو لم يُعطَ سلطانًا من الله. هذا ما يؤكّده الكتاب الإلهي إذ يقول: "جاء نبوخذنصر ملك بابل على أورشليم وسباها والرب سلّمها ليده" (2 مل 24: 11).
يعطي السلطان للشرّير بسبب خطايانا، كما قيل: "من دفع يعقوب إلى السلب وإسرائيل إلى الناهبين؟! أليس الرب الذي أخطأنا إليه، ولم يشاءوا أن يسلكوا في طرقه، ولم يسمعوا لشريعته، فسكب عليه حموّ غضبه؟!" (إش 42: 24). وعندما أخطأ سليمان وترك وصايا الرب وطريقه قيل: "وأقام الرب خصمًا لسليمان" (1 مل 11: 14).

يعطي السلطان ضدّنا بأسلوبين: إمّا للعقوبة عندما نخطئ، أو للمجد عندما نتزكّى، كما نرى ذلك في أمر أيوب إذ يقول الرب: "هوذا كل ما له في يديك، وإنما إليه لا تمد يدك" (أي 1: 12). ويقول الرب في إنجيله أثناء آلامه: "لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق" (يو 19: 11).
ونحن إذ نسأل ألا ندخل في تجربة إنّما نتذكّر ضعفنا، الذي لأجله نسأل لئلا يتّصف أحد بمهانة وفي كبرياء وعجرفة يظن في نفسه أنه شيء، ناسبًا لنفسه مجد الاعتراف (وسط الضيقة) والقدرة على الاحتمال، مع أن الرب يعلّمنا التواضع، قائلاً: "اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة، أمّا الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف" (مر 14: 38).

    يقول القديس كبريانوس: لذلك كان من الضروري أن ينصحنا الرب لنقول في الصلاة "ولا تدخلنا في تجربة" وفي تلك الكلمات نرى أن العدو لا يستطيع أن يفعل شيء ضدنا إلا إذا كان الله قد سبق وسمح بذاك، حتى يكون كل خوفنا وإخلاصنا وطاعتنا نحو الله، فحتى في التجارب لا يستطيع الشرير شيئًا لا يسمح به الله.

معلماً إيانا التواضع. فعندما يأتي الاعتراف [بالضعف] بتواضع وتسليم أولاً، ويُنسَب كل شيء لله، فكل ما يُطلب بتضرع في خوف الله وإكرامه، فهو يمنحه بحسب صلاحه.

القديس أغسطينوس: اغفر لنا ذنوبنا التي ارتكبناها، وهبنا أيضًا ألاَّ نخطئ بعد بأية خطيَّة. لأن من يُغلب من التجربة يسقط في الخطيَّة. لهذا يقول الرسول يعقوب: "لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ الله، لأَنَّ الله غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً. وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ. ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطيَّة، وَالخَطيَّة إِذَا كَمُلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً" (ع ١: ١٣-١٥). فإذ لا تنجذبون إلى الشهوة لا تقبلونها، فإن قبلتموها تكونون كما لو كنتم تحتضنوها بقلوبكم.

إن الشهوة تثور، فاضبطوا أنفسكم ولا تتبعوها. أنَّها نجسة ومحرَّمة. أنَّها تفصلكم عن الله. فعليكم ألاَّ تحتضنونها بقبولكم لها، لئلاَّ تلد، لأنَّه إن قبلتموها أي احتضنتموها حبلت، و"الشهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطيَّة". ألا تخافوا من أن تلد خطيَّة؟! " وَالْخَطيَّة تُنْتِجُ مَوْتاً". فإن لم تخافوا من الخطيَّة، خافوا من عاقبتها، أيّ خافوا من الموت. الخطيَّة حلوة، ولكن الموت مرّ. إنَّكم تخطئون بسبب المال أو لمركز عالمي أو بسبب امرأة، أو أي شيء آخر، هذه التي ستتركونها متى أغلقتم أعينكم للموت، وأما الخطيَّة التي ترتكبونها فستحملونها معكم بعد الموت.

الله لا يجرِّب أحدًا بالتجارب التي ننخدع بها ونضلّ، ولكنَّه في عمق عدله يسمح بلا شك أن يتخلَّى عن البعض، فيجد المجرب فرصته، لأنَّه لا يجد في الإنسان الذي تخلَّى عن الله أية مقاومة. فإذ يتخلَّى الله عنهم يتقدَّم المجرِّب كمالك لهم. لهذا نقول: "لا تدخلنا في تجربة" أي لا تتخلَّ عنَّا.

ماذا يعلِّمنا الرسول يعقوب؟ أن نحارب شهواتنا. فإنَّكم مزمعون أن تطرحوا خطاياكم بنوالكم سرّ العماد المقدَّس، ولكن مع ذلك تبقى شهوات تحاربون إيَّاها بعد تجديدكم، لأن الصراع معها سيزال قائمًا.

إنّ حياةَ الإنسان كلّها مختبَرة. ولهذا السبب علّمنا المسيح أن نصلّي إلى الله كي لا يسمح بأن ندخل في التجارب. هذا تمامًا لأننا ضعفاء، ومرضى، وكلّ المشقات التي تحدث في حياتنا هي استمرار لنتائج الخطيئة للجبّلة الأولى التي قبِلت التجربة الكبرى في الفردوس، وهؤلاء انصاعوا للتجربة، بالرغم من أنّهم كانوا يملكون نعمة الله، وكانوا في شركة معه. فكم بالأحرى يحدث هذا معنا نحن الذين لنا جسد فانٍ سقيمٌ وشهوانيٌّ وكلّ ما ينجم عن ذلك.

بحسب تعليم آباء الكنيسة هي نوعان، تلك التي تأتي من اللذة، وتلك التي تأتي من الألم. التجارب الشهوانيّة هي إراديّة طالما أننا نهيّجها ونتلمسها بحريتنا ونسرّ بها. أما التجارب الألميّة ترتبط بالمرض والألم والفقر وموت الأشخاص الذين نودّهم، ونحن لا نطلبها بل تأتي إلينا بسبب فساد طبيعتنا. تتفاوت التجارب الشهوانيّة الإراديّة عن التجارب الألمية اللاإراديّة. ويجب أن نواجه هذه التجارب بطرق مختلفة. علينا أن نتجنّب التجارب الشهوانية الإراديّة ، ونتجنّب حتّى النظر والسمع إلى كلّ ما يثير الشهوة لدينا والمسّرة. أما بالنسبة للتجارب الألمية،كالمرض والألم وموت الأشخاص الذين نحبّهم، علينا أن نصلّي كي لا تأتي إلينا، لكن في حال إيتيانها علينا أن نصبر بجلادة وأن نطلب من الله المساعدة.

وقد علّمنا المسيح أن نطلب من الله أن لا يجربنا. ونحن نعرف وندرك التجارب الألمية بأنّها لاإراديّة، وبهذا نُظهر تفاهتنا لأننا ضعفاء ونلجم تكبرنا. هذا يعني أنّه يجب أن لا نهجم على التجارب بإرادتنا، بل أن نطلب بتواضع من الله أن لا يسمح بذلك. وبعدئذ، بمثل هذا الفكر المتواضع، فإنّ النصر سيكون باهرًا بمعونة الله، أمّا انهزام الشيطان فسيكون مخزيًا.

وجملة "لا تدخلنا في تجربة" تدّل على شيء آخر، بأن نؤكد أن الله الذي يدبّر العالم وحياتنا الشخصيّة، يسمح أن تأتي إلينا التجارب وخاصّة التجارب الألمية اللاإرادية. والسؤال المطروح هو: لماذا يسمح الله بالتجارب؟

كتبَ الآباء بأن الله يسمح بالتجارب، من جهة، بحسب مسّرته، حيث يريد الله أن يُظهر إيماننا وصبرنا كما يريد تقدّيسنا من خلال التجربة، ومن جهة ثانية، وبحسب تدبيره وتنازله ليحفظنا من أي شرّ سيحدث. فإن لم نتجرّب ونتب عن كلّ خطيئة ارتكبناها فمن جهة أخرى، ومن باب التخلي، يرفع نعمته بسبب بعض الخطايا التي اقترفناها ولم نشعر خلالها بحاجتنا إلى التوبة.

لا يوجد إنسان لم يقتبل التجارب في حياته، وهي إما الألمية اللاإرادية أو الشهوات الإراديّة، أو من الأفكار والرغبات التي يضعها الشيطان في وسطنا أو من الأشخاص الذين يضايقوننا بتحريض من الشيطان، فالموضوع المراد به هنا هو: كيف نواجه هذه التجارب؟ لأنّ خلاصنا يتوقف على الطريقة التي نواجه بها التجارب، وأيضًا بمحاربة التجارب الشهوانيّة وهزيمتها. ونتضّرع إلى الله أن لايسمح بمجيء التجارب الألمية، لكن عندما تأتي، أن نصبر بجلادة وإيمان بالله فهو الذي سيساعدنا أن نعود من حيث سقط الجدّين الأولين وفقدوا الشركة الناتجة عن الخطيئة وفقدوا الفردوس. وسيحصل هذا بمساعدة الله وبحريتنا الشخصيّة.