حنان فكري
العلم يبدد الخوفَ، لكنَّ الإذلالَ في ساحةِ العلمِ يصلِب الحُلْمَ على خشبةِ الخوفِ، ويُجرده من الرُّوحِ، التي هي أصل الحياةِ، ومن أجلها نبحثُ، ونكتشفُ، ونقتربُ من الحقيقةِ. إنَّهُ يَسحَقُ الكرامة دون أن يَرف لأحد جَفن، ويتركُ الضحيةَ مُجردَ بقايا باحثٍ خانهُ عقلُهُ.

تخيل ان يخونك عقلك أمام الجميع... قلبك يخفق بشدة، يداك ترتجفان، تحاول أن تبدو واثقًا. بعد ان أمضيت شهورًا، وربما سنوات، وأنت تجتهد في البحث، تحلل، تستنتج، وتدقق في كل تفصيلة. كنت تعتقد أنك مستعد لكل سؤال، ولأي نقاش. لكن فجأة، وفي لحظة غير متوقعة، يطرح عليك أحدهم ملاحظة بنبرة حادة، أو ينهال عليك سيل من الانتقادات المتتابعة، فتشعر وكأن عقلك قد توقف عن العمل. المعلومات التي كنت تحفظها عن ظهر قلب تختفي فجأة، وكأنها لم تكن موجودة من الأساس. تحاول تذكر أبسط الحقائق التي كررتها عشرات المرات، لكن الفراغ يملأ ذهنك، والرهبة تسيطر على ملامحك.

هذا ليس مجرد موقف عابر، بل ظاهرة نفسية حقيقية تُعرف بـ"التشويش الإدراكي تحت الضغط"، حيث تؤدي الضغوط النفسية الشديدة إلى إضعاف قدرة الدماغ على استرجاع المعلومات، حتى وإن كانت محفورة في الذاكرة. في لحظات التوتر الحاد، التي يتعرض لها الباحث في السيمنار العلمي، وجلسات السيمنار العلمي هي لقاءات أكاديمية أو بحثية لمناقشة موضوع معين في مجال علمي محدد. يشارك فيها الباحثون والاساتذة، لتعميق الفهم وتبادل الأفكار." من المفترض أن تكون فرصة للنقاش العلمي البنّاء، لاخضاع البحث للنقد الموضوعي، وليس لاخصاع كاتب البحث للنقد الشخصي.

إلا أن الواقع في بعض الجامعات يعكس صورة أخرى، حيث يتعرض الباحثون لضغوط نفسية تصل إلى حد الإذلال الأكاديمي، وكأن الهدف ليس تطوير البحث، بل تحطيم معنويات الباحثين وإظهار تفوق الأساتذة على حسابهم. فلا يعود الباحث فقط يعاني من الارتباك، بل يشعر وكأن كل جهوده العلمية السابقة تتلاشى أمامه في لحظة قاسية من العجز الذهني. بسبب المقاطعة المتكررة أثناء عرض الأفكار، والأسئلة الاستفزازية غير الهادفة، بالإضافة إلى نبرة التقليل والتهكم والسخرية، تحت هذا الضغط النفسي، قد يتجمد التفكير، ويجد الباحث نفسه أمام فراغ ذهني مفاجئ. لكن، هل المشكلة في الباحث أم في المناخ الأكاديمي الذي يُلقي به في أتون الرهبة بدلاً من أن يحتضنه كعقل يسعى للإضافة؟

في ظل هذه الأجواء المشحونة، يتعرض الباحث لضغط نفسي شديد، يؤدي إما إلى الصمت التام، خوفًا من تكرار الهجوم، أو من التشكيك في كل فكرة يقولها، وكأنه يتراجع عن قناعاته بحثًا عن القبول بدلاً من الدفاع عن رؤيته العلمية. بل يصل الأمر إلى أن العقل يبدأ في مسح المعلومات تلقائيًا، ويتحول الباحث من شخص متمكن من فكرته إلى شخص مرتبك، عاجز عن استدعاء حتى أبسط الأفكار التي بناها خلال بحثه.

والسؤال المُلحّ هنا: لماذا تحوّلت النقاشات العلمية إلى ساحات استجواب ومحاكم تفتيش فكرية؟ ومن الذي منح أولئك الأساتذة هذه السلطة التدميرية حتى ينتجوا للوطن باحثين محبطين؟ وهنا يصبح السؤال أكثر إلحاحًا: هل نريد باحثًا واثقًا، متمكنًا من أدواته العلمية، أم شخصًا محطّمًا نفسيًا، غارقًا في الشك في كل كلمة يكتبها أو ينطق بها، مفضّلًا الصمت واتّهامه بعدم المعرفة عن مواجهة السخرية، والتهكّم، والتصيّد؟

هذا ما يحدث في أروقة الجامعات، حيث يُفترض أن تزدهر العقول وتُصقل المواهب البحثية، يعاني العديد من الباحثين من تلك الظاهرة الخفية المؤلمة، العصية على التغيير بسبب السلطة الأكاديمية الممنوحة للأستاذ والتي بموجبها قد يتم تدمير الشخص ذاته وليس الجهد البحثي. وبدلاً من أن يخرج الباحث من المناقشة برؤية أعمق وثقة أكبر، يخرج منها مثقلًا بالشكوك والإحباط، غير قادر على استعادة ثقته بأفكاره

كم من باحث خرج من سيمنار علمي محبطًا، فاقدًا الثقة في عمله، لمجرد أن أحد الأساتذة قرر أن يسحق مجهوده بكلمات لاذعة وغير ضرورية؟ كم من باحث تم تجريده من الإبداع والاستقلال الفكري لأنه لم يكرر نظريات "المدرسة التقليدية" التي يؤمن بها بعض الأساتذة؟ أو أنه مختلف فكريا معهم، أو أن لديه أخطاء اجرائية، أو أنه لا يجيد التعبير أثناء المناقشات العامة. التركيز على كل ما سبق أثناء مناقشة الباحث، يتسبب في تصغير الباحث نفسيًا عبر نبرة الاستعلاء أو الهجوم الشخصي لا يخدم العلم، بل يعكس فجوة سلطوية داخل المنظومة الأكاديمية.

لا أحد ينكر أهمية النقد العلمي، كلهم أداة للارتقاء البحثي والوصول إلى مستوى أكاديمي متقدم، لكن هناك فرقا بين التوجيه والنقد البناء، وبين الهدم والتقليل من قيمة الباحث. فالنقد الذي يهدف إلى إبراز الثغرات بمنهجية علمية واحترام هو ما يدفع عجلة البحث العلمي، أما النقد الذي يتحول إلى استعراض للسلطة الأكاديمية واحراج شخص الباحث، يعتبر ممارسة سلطوية لا تمت للعلم بصلة، لكنها تمثل ضغطا عصبيا يقمع الأصوات الجديدة لصالح تكرار القديم ويرسخ بيئة عدائية تحول النقد الذي من المفترض أن يكون بناءاً إلى سلاح للهدم النفسي ووسيلة لإخراس العقول وإرهاب الباحثين..

إن احترام الباحثين وتقدير جهودهم لا يعني التساهل معهم، بل يعني معاملتهم كـعقول تستحق التقدير والنقاش باحترام. ولا يمكن للبحث العلمي أن يزدهر في بيئة يتعرض فيها الباحثون للإذلال والتهميش.

آن الأوان لإعادة بعض المؤسسات الأكاديمية النظر في طريقة تعاملها مع الباحثين، واعلاء البحث العلمي على شهوة استعراض القوة.

آن الأوان لإعادة النظر في هذه الثقافة السامة التي تسود بعض الأوساط الأكاديمية، واستبدالها بثقافة تدعم البحث العلمي بدلاً من أن تحوله إلى معركة استنزاف نفسي لا فائدة منها.
نقلا عن المصرى اليوم