كمال زاخر
اليوم ـــ الاربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥
ـــــــــــــــــ

كلام لازم

ـــــــــــــــــ
لا نتعرض هنا للقضايا اللاهوتية التى كانت محل جدل بين رموز المرحلة، فهى من الدقة التى تفرض على من يفككها أن يكون باحثاً لاهوتياً اكاديمياً، يطرحها على فكر الكنيسة الأولى وعمادها الإنجيل وتعليم الرسل والتقليد المحقق المسَلّم لها، تماماً كما حدث فى مجامع الكنيسة المسكونية فى القرن الرابع، والتى نحتت لنا قانون الإيمان النيقاوى القسطنطينى، الذى اعتمدته كل الكنائس حتى بعد الإنشقاق، ومازال كل المسيحيون يرددونه فى صلواتهم الليتورجية والشخصية.

وفى تقديرى أن صراعات اعمدة الكنيسة المعاصرة، انطلقت من منطلقات شخصية ثم بحث بعض اطرافها على غطاء لاهوتى يبررها أمام الرعية والعالم، فذهبوا يتسقطون لبعضهم كلمة هنا أو جملة هناك، يبنون عليها مواقفهم، فكانت النتيجة أن افيالنا أوغلت فى الصراع ـ المعلن أو المتوارى خلف جدران مواقعهم ـ فيما تحطمت حنطتنا تحت اقدامهم الثقيلة.

كانت الحقيقة التى لا نقترب منها أن بدايات الخلافات كانت وهم علمانيون فى بواكير اشتباكهم مع الشأن الكنسى، ولم ينخرط احدهم فى البحث الأكاديمى، وشكلوا معارفهم من قراءات لاهوتية متناثرة وشحيحة فى ذاك الزمان، بعضها من اصول غير ارثوذكسية، اختلطت بتصوراتهم واستيعابهم، يتقدمها حماسهم فى السعى لإقالة الكنيسة من عثرتها، اتفقوا فى الهدف واختلفوا على الطريق.

وبينما هم كذلك انقسموا بين الرهبنة والتكريس، وبينهما تشعبت الطرق، فمن ذهب للرهبنة اعتنق الاصلاح فى تقويم الهرم الإكليروسى، ودعم قبضته،
فيما كان من اختاروا التكريس يرون أن التصحيح لا يأتى إلا من خلال أعادة التواصل مع الفكر الآبائى فى الكنيسة الأولى، فذهبوا للتنقيب عن انتاجهم اللاهوتى الموثق باللغة اليونانية، التى عكفوا على اتقانها بمثابرة وجلّد، بعضهم حوَّل مساره للرهبنة، بعد المتاعب التى حاصرت حركة التكريس، مع الاستمرار فى ترجمة وتعريب الفكر الأبائى فى قلاليهم، بينما بقى بعضهم فى التكريس خارج الأديرة، واستطاعوا أن يحموا حراكهم بتأسيس مراكز بحثية بغطاءات قانونية. كان همها ترجمة كتب ووثائق وفكر الآباء.

لم يستطع أيا من الفريقين مد خطوط التواصل بينهما، وتعمق الشرخ الذى وصل فى بعضه إلى القطيعة، والمجاهرة بالصراع، وبقى الأمر على هذا الحال حتى نجح فريق الاصلاح التراتبى فى الوصول إلى مقاليد إدارة الكنيسة، لتتغير التوازنات، ومن ثم ادارة الاختلاف، ونعانى من تداعيات علاقة السلطة بالمثقف، وتضج عقولنا بين الفرقاء، ونعانى خارج دوائرهم، من عديد من المتاعب مع تصاعد التيارات الاسلامية، وتَبنى استهداف الأقباط والتضييق عليهم، الأمر الذى دفع بسعى الحفاظ على البقاء وحماية الهوية القبطية الى مقدمة سعى الأقباط، فيما يتفاقم صراع فرقاء المصلحين خلف الأبواب المغلقة، تحمل اشاراتها المباشرة أو المتوارية كتبهم وعظاتهم. وكانت الغلبة بطبيعة الحال لجناح السلطة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعيدا عن هذا نتابع رحلة البابا شنودة فى موقعه الجديد "بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية"، والتى تبدأ يوم الأحد ٣١ أكتوبر ١٩٧١ بعد صلوات القداس الإلهى، يبدأ القائمقام، الأنبا انطونيوس مطران سوهاج، مراسم إجراء القرعة الهيكلية، بحسب اللائحة المعدلة لانتخاب البابا البطريرك، والتى انتهت باختيار الأنبا شنودة اسقف التعليم، ويرصد كتاب "تاريخ مدارس الأحد فى مائة عام" احداث تلك الأيام "صدر القرار الجمهورى الخاص بالبابا (اعتماد نتيجة الانتخابات وتعيينه)، فى صبيحة اليوم التالى، أول نوفمبر ١٩٧١، وفى يوم ٨ نوفمبر ١٩٧١ توجه البابا المختار الأنبا شنودة إلى القاهرة لمقابلة السيد رئيس الجمهورية محمد أنور السادات فى بيت الرئيس بالجيزة، وكانت المقابلة ودية." وفى الأحد 14 نوفمبر يتم تجليس وتنصيب الأنبا شنودة على الكرسى المرقسى.

يقوم البابا بزيارات متتابعة، عام ١٩٧٢، لأغلب الأديرة، فى وادى النطرون ومنها دير الأنبا مقار، وكذلك اديرة البحر الأحمر وفى عودته منها يزور الجبهة الحربية التى كانت تستعد لحرب اكتوبر ويلقى على الضباط والجنود كلمة وطنية داعمة. ويهتم بتعمير اديرة الصعيد، وتطوير الاحتفالات بأعياد القديسين لتتحول من "موالد شعبية" الى احتفالات روحية.

يفتتح البابا رسامات الاساقفة من رفاق المسيرة وكبار خدام مدارس الأحد، ويشرع فى تكليف لجنة لمراجعة السنكسار وأخرى لمراجعة الكتب الطقسية وثالثة المدائح والترانيم التى تتلى فى التوزيع فى القداس الالهى، وتنقيح الابصلمودية الكيهكية، كتاب التسبحة، وعهد هذه المهام بالترتيب للأنبا يوأنس اسقف الغربية، والأنبا غريغوريوس، وكل من الدكتور يوسف منصور والاستاذ حلمى رفلة.

كانت رؤية البابا أن تركيز الخدمة فى نطاقات جغرافية صغيرة يؤدى إلى نتائج أفضل فى الرعاية والتعليم، والخدمات الأخرى، وساعده على تطبيق هذه القاعدة توالى رحيل الاباء المطارنة إذ كان اغلبهم طاعنين فى السن، وكانت ايبارشياتهم مترامية الأطرف وتضم أكثر من محافظة، فمع رحيل الأب المطران يتم تقسيم ايبارشيته الى عدد من الايبارشيات تضم الواحدة منها عدد من مراكز وقرى المحافظة، وبجوار هذا التقسيم توسع البابا فى رسامة الاساقفة العموم، بدون أن يحمل تقليد رسامتهم مسئوليات محددة كما كان الحال عند البابا كيرلس السادس، وهى خبرة تحتاج إلى دراسة موضوعية تعظم ايجابياتها وتقلص سلبياتها.

فى تقرير احصائى قام البابا كيرلس برسامة 21 اسقفاً، منهم مطران الكرسى الأورشليمى (القدس)، وثلاثة اساقفة عموم لهم مهام محددة، وأسقفان للسودان وأسقف لأفريقيا، إضافة إلى رسامة بطريرك (جاثليق) لكنيسة اثيوبيا، بامتداد اثنى عشرة سنة هى مدة حبريته (مايو ١٩٥٩ ـ مارس ١٩٧١).

بينما قام البابا شنودة برسامة ١١١ اسقفاً ( ٨٢ داخل مصر، ١ القدس، ٤ السودان وافريفيا، ١٢ اوروبا، ٦ الولايات المتحدة الأمريكية، ١ كندا، ٣ استراليا، ٢ امريكا الجنوبية). بامتداد ٤٠ سنة هى مدة حبريته (١٤ نوفمبر ١٩٧١ ـ ١٧ مارس ٢٠١٢).

واصل البابا اهتمامه بالأسر الجامعية التى تخدم شباب الأقباط بالجامعات، والتى دعمها وهو اسقف للتعليم، وكانت قد بدأت فى الخمسينيات برعاية الدكتور شفيق عبد الملك الأستاذ بطب عين شمس والاستاذ بمعهد الدراسات القبطية وقد تولى عمادته فيما بعد، وشكل لها البابا لجنة تنفيذية عام ١٩٧٤. وقام برسامة اسقف عام للشباب، يواصل ضمن مهامه مهام اسقف التعليم فى دوائر الشباب.

تتوسع الكنيسة فى رسامة اساقفة لخدمة المصريين بالخارج، الذين عرفوا بأقباط المهجر، والتى اسس الخدمة فيها الأنبا صموئيل اسقف الخدمات، فى حبرية البابا كيرلس السادس، كان الهدف تواصل الكنيسة مع ابنائها ومد مظلة رعايتها لهم، وجاءت رسامة البابا شنودة لأساقفة لهم فى سياق دعم تواصلهم مع الوطن الأم، ومد خدمة الكنيسة لأجيالهم التالية، وكان للمصريون بالخارج دور بالغ الأهمية فى دعم مصر بعد حرب1967 وكان دينامو هذا الدعم الانبا صموئيل عبر تواصله معهم، ويعد اقباط المهجر أحد أهم دوائر دعم الكنيسة المصرية، وفى ظنى أن الاصلاح الحقيقى للكنيسة سيأتى من اقباط المهجر، لأنهم يضمون رموزاً لها ثقلها من خدام الكنيسة من الرعيل الأول والذين قاموا بتأسيس كيانات ثقافية تضع فى اولوياتها دعم الكنيسة.
وفى ظنى أن تقسيم الايبارشيات والتوسع فى رسامة الاساقفة العموم وخدمة الشباب وايبارشيات المهجر من الموضوعات الموجبة للفحص والتقييم، والمراكمة الواعية، والتى تدفعنى لتناولها فى سياق طرحى هذا فى مقالات تالية.

دعونا نواصل تتبع رحلة البابا شنودة التى اصطدمت سفينته بدوامات وعواصف السياسة، حتى وصلت الى اعلان رئيس الدولة عزله وتحديد اقامته فى سبتمر ١٩٨١، لنبدأ مرحلة جديدة تمتد لنحو ثلاث سنوات، وفيها تدار العلاقة بين الدولة والكنيسة من خلال لجنة تشكلت من خمسة اساقفة بقرار رئاسى من الدولة، تضم الأنبا مكسيموس مطران القليوبية، والأنبا غريغوريوس اسقف البحث العلمى، والأنبا يوأنس مطران الغربية، والأنبا اثناسيوس مطران بنى سويف، والأنبا صموئيل اسقف الخدمات، الذى اغتيل فى حادث المنصة ٦ اكتوبر ١٩٨١، فيتم تعيين الأنبا باخوميوس مطران البحيرة عوضاً عنه.

قوبل قرار تعيين اللجنة الخماسية بغضب شعبى لكن ادبيات افراد اللجنة تسجل أنها كانت تعود فى قراراتها قبل اصدارها للبابا فى ديره، وإن كانت قد تصدت لبعض المشاكل العالقة، فى سبيل حلها داخل الكنيسة فيما رأته أمراً تنظيمياً لا يحتاج ولا يرقى للعرض على البابا، الأمر الذى لم يسترح له البابا، وانعكس هذا على قراراته بعد عودته الى مقر كرسيه بالقاهرة، وكان منها تغيير سكرتير المجمع واسناد الموقع للأنبا بيشوى اسقف دمياط، والذى ظل فيه لدورات متعاقبة حتى رحيل البابا، ورقى الى رتبة "مطران"، وأطلق البابا يد الأنبا بيشوى فى الكنيسة ليصبح رجل المرحلة بلا منازع، وكان عصا البابا الغليظة، لتشهد الكنيسة سلسلة ممتدة من محاكمات الكهنة والتى تنتهى بايقاف الكاهن عن الخدمة، أو قطعه من الشركة وتجريده من رتبته الكهنوتية، وكان ابرز هؤلاء القس ابراهيم عبد السيد والذى تم ايقافه دون أن يصدر بحقه أية قرارات سالبة لكهنوته أو عضويته الكنسية، وبقى على رتبته الكهنوتية حتى وفاته، وكانت أزمته محل تناول الصحف بشكل كبير، يذكر أنه قدم أكثر من طلب أن تكون محاكمته علنية ولم يُستجب له، ولم تكتمل محاكمته حتى وفاته.

وقد تناولتُ قضية المحاكمات الكنسية فى اكثر من مقال بمجلة "مدارس الأحد" كان آخرها عن ملابسات ايقاف الراهب القس اغاثون الأنبا بيشوى، الذى عين سكرتيرا للبابا وكان شاهداً ـ بصفته ـ على محاولات الدولة التواصل مع البابا لاثناءه عن قرار عدم صلاة عيد القيامة 1980بالكاتدرائية وعدم استقبال المهنئين الرسمين، والاعتكاف بالدير، وتم نقله للخدمة بكنيسة ابى سيفين بمصر القديمة، ثم فى يونيو ١٩٩٤ صدر بحقه قراراً بالايقاف، وجاء المقال ضمن ملف خصصته المجلة لمناقشة ازمات الكنيسة وقتها، فى عددها الصادر فى اغسطس ١٩٩٤ الذى على اثره اصدر البابا قراره بعدم اعتراف الكنيسة بالمجلة.

بعد الرسامات الأولى للأساقفة، التى اختيرت من رفاق الطريق من القامات المخضرمة صاحبة الرؤية والخبرة، تأتى الرسامات التالية فى أغلبها بمعايير مختلفة عن سابقتها، يتقدمها معيار الثقة مع غياب الخبرة، وكانوا من الشباب الذين لم يمكث جلهم فى الدير سوى سنة الى ثلاث سنوات على اقصى تقدير، الأمر الذى انعكس سلباً على ادارتهم لابراشياتهم التى اقيموا عليها، وكان لهم الغلبة فى المجمع، ولكل هذا كانت قرارات المجمع التى يصيغها سكرتيره تصدر بالتمرير، بما فيها قرار قطع الدكتور جورج حبيب بباوى، وكانت نصيحة السادات للبابا كما صرح بها فى واحدة من خطبه "بيِّض لحاهم يا شنودة"، ودفع البابا الثمن، كما حدث مع رحبعام بن سليمان. ويحدث تحول فى فهم طبيعة عمل الأسقف ودور الكنيسة من طبيب ومشفى يداوى المخالفين إلى قاض ومحكمة تتعقبهم وتعاقبهم. بل وتمد هذا الدور لتتعقب كل من لا يستريح له مدبروها.

وعندما يتقدم العمر بالبابا تظهر الصراعات بين دائرة الاساقفة القريبة منه، لعل ابرزها سباق الانبا بيشوى مطران دمياط وسكرتير المجمع والانبا يوأنس سكرتير البابا آنذاك، فى السعى للاستحواد على رضا البابا، ثم يتطور الأمر إلى رسامته اسقفاً عاماً فى موقعه ضمن طاقم السكرتارية، ليصبح عين وأذن سكرتير المجمع عند البابا ويحاصر مساعى غريمه.

على صعيد آخر تظهر عبقرية البابا شنودة الكنسية، والسياسية، فى قراره التاريخى بزيارة الفاتيكان ولقاء بابا روما ـ البابا بولس السادس ـ والتى تمت فى ١٠ مايو ١٩٧٣ بعد نحو عام من توليه موقعه، لينهى قطيعة ممتدة لنحو خمسة عشر قرناً بين الكنيستين، والاتفاق على اعلان أو بيان يعلنا فيه القضايا اللاهوتية والكريستولوجية، المشتركة، والتأكيد على مواصلة الحوار حول القضايا الخلافية، لكنه قوبل بمعارضة شيوخ المجمع حال عودته فتم تجميد تفعيل الاعلان.

مازال للطرح بقية يحملها مقال قادم.