القمص يوحنا نصيف
تعُود معرفتي بأبي الحبيب القمص أبرام إميل، وكيل البطريركية الحالي بالإسكندرية، إلى وقت سيامتي كاهنًا في الكنيسة المرقسيّة عام 1996م، وقبل ذلك لم أكُن أعرفه.
كنت قبل ذلك أخدم في كنيسة مار جرجس سبورتنج. وكانت سيامتي بطلب من قداسة أبينا الحبيب البابا شنودة الثالث، واتفاق مع أب اعترافي القمص تادرس يعقوب، الذي كنت أخدم كشمّاس مكرّس لخدمة الشباب تحت إشرافه.
عندما بدأت خدمتي الكهنوتيّة في الكنيسة المرقسيّة، أخذتُ أتعرّف على شعب الكنيسة وخدّامها.. من خلال الافتقاد، وحضور جميع اجتماعات الكنيسة، وعقد جلسات مع الخدام، بشكل فردي وجماعي..
في ذلك الوقت كان المهندس أسامة إميل هو أمين خدمة ابتدائي بالكنيسة، وقد عرّفني بنفسه عندما جاء لزيارتي في دير الأنبا بيشوي أثناء الأربعين يومًا بعد السيامة.
لتنظيم عمليّة افتقاد الشباب، خصَّصَتُ يومًا في الأسبوع لافتقاد الشباب فقط، غير أيّام افتقاد العائلات، وطلبتُ من الخدّام أن يرافقني في ذلك اليوم واحدٌ منهم.. وقُمنا بعمل جدول، فكان كلّ أسبوع يرافقني في هذا الافتقاد واحد من الخدام؛ وبالطبع كان في هذا الوضع مساعدة كبيرة لي، لعدم معرفتي الكاملة بأسماء الشوارع في ذلك الوقت..
وعندما جاء الدور على المهندس أسامة إميل، ليرافقني في الافتقاد، تحدّثنا معًا كثيرًا أثناء سيرنا من بيت إلى بيت.. وعرفتُ أنّه متزوِّج منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولم يسمح الله بأن يكون هناك أولاد؛ ولكنّه هو والدكتورة نيهال زوجته يضعون مثل هذه الأمور في يد الله بتسليم كامل، دون أدنى تذمُّر أو قلق.. وعندما زرتهما في بيتهما، لفت نظري أنّه يقرأ بانتظام -بالإضافة للكتاب المقدّس- كتبًا روحيّة دسمة. وكان الكتاب الذي يقرأه في ذلك الوقت على ما أذكر "تفسير سفر الخروج" للمتنيّح الأرشيدياكون نجيب جرجس.. وقد زادني هذا إعجابًا به!
مع مرور الوقت، لاحظتُ أنّ الشباب يحبّون المهندس أسامة، ويلتفّون حوله.. فتكلّمت مع أبي الحبيب القمّص مرقس جبرة أنّه من المهمّ أن يكون بالكنيسة فصلٌ لإعداد الخُدّام، وقرّرنا أن يكون المهندس أسامة مشرفًا عليه.. وبالفعل كان فصلاً ناجحًا، وتخرّج منه عدد طيّب من الخُدّام.
الحقيقة أنّ المهندس أسامة كان واحِدًا من أكثر الخدّام التزامًا في الخدمة والمواعيد وحضور اجتماعات الشبّان، على الرغم أنّ عمله كمهندس صاحب شركة للمباني والإنشاءات كان يستلزم وقتًا كبيرًا، إلاّ أنّه كان مُنَظَّمًا وناجحًا في خدمته مثلمًا كان ناجحًا في عمله خارج الكنيسة.
بعد حوالي سنتين، كنت أتناقش مع أبي الحبيب القمّص مرقس جبرة في احتياجنا لكاهن جديد للخدمة معنا، إذ في ذلك الوقت كُنّا قد بدأنا في خدمة منطقة العجمي، التي لم يكُن بها أيّ كنيسة، وكانت هذه الخدمة تستهلك جانبًا لا يُستهان به من وقتنا. كمّا أنّه لم يكُن قد تمّ شراء الكنيسة المارونيّة بالمنشيّة بعد، وهي التي صارت كنيسة العذراء والأنبا موسى.. فكان شعب منطقة المنشيّة والجمرك يتبع خدمة الكنيسة المرقسيّة.. كان أحد أبرز المرشّحين أمامنا هو المهندس أسامة.
كنتُ معتادًا أن أذهب من حين لآخَر لأبي الحبيب القمّص دوماديوس حنّا كاهن كنيسة الأنبا أبرام بمحرّم بك في بيته بالإبراهيميّة، لأسمع كلمة روحيّة، وأستشيره في بعض أمور الخدمة.. وفي إحدى هذه الجلسات كان معي أبونا مرقس، ورأينا أن نستأنِس برأي أبونا دوماديوس في موضوع احتياجنا لسيامة كاهن جديد معنا. وعندما عرضنا عليه بعض الأسماء التي كان يعرفها، اعترض على البعض، ولكنّه مَدَحَ في شخصيّة المهندس أسامة، الذي كان قد ساعده في بعض الأمور الإنشائيّة لمباني كنيسة الأنبا أبرام.. وهذا شجّعنا بالأكثر على ترشيحه.
في أكتوبر من عام 1999م، طلبنا أن نجلس ككهنة وخدّام وشعب الكنيسة المرقسيّة مع قداسة البابا شنودة، لترشيح كاهن جديد للكنيسة.. تَفاجأ البابا بهذا الطلب، إذ لم يكُن معتادًا أن تتّفق جميع أطياف الكنيسة على مرشّح بعينه؛ وقد كان للبابا خبرة طويلة ليست طيّبة مع كنيستنا في هذا الموضوع، لذلك حَلاًّ لهذا الوضع كان يقوم بسيامة خُدّام يختارهم بنفسه من كنائس أخرى، مثلما حدث في سيامة أبونا مرقس جبرة عام 1989م، وهو أصلاً كان يخدم بكنيسة مار جرجس بالحضرة، وأيضًا في سيامتي عام 1996م. لقد كان قداسة البابا يَعتَبِر أنّ الكنيسة المرقسيّة هي كنيسته الخاصّة، ويستطيع هو أن يقوم بتزكية مَن يراه مناسِبًا لها، مادامت آراء الشعب غير متّفقة.
عندما جلسنا مع قداسة البابا، بدأ كلامه بعبارة: "هذه الكنيسة بها تيّارات كثيرة، أعرفُ بعضنا، وسأعرف البعض الآخَر حالاً". ثمّ قام بتوزيع أوراق صغيرة علينا، لنكتب فيها ما نشاء. وبعد جمع الأوراق وفرز الأسماء، وجد النتيجة كالتالي: 160 ورقة (بعدد الموجودين تقريبًا) مكتوب فيها اسم واحد هو المهندس أسامة إميل، وورقة واحدة مكتوب فيها "لا أوافق"! فأمسكها بأطراف أصابعه وألقاها جانبًا وهو يقول: "لا يوافق على ماذا؟!" وبدت علامات الارتياح التامّ على وجهه، فقد وجد لأوّل مرّة شعب الكنيسة يتّفق بكامله على مرشّح للكهنوت، وقال لنا: "مبروك عليكم".
في ذلك اليوم كان المهندس أسامة وتاسوني نيهال زوجته في أجازة خارج مصر، ولم يَعلَما بموضوع الترشيح إلاّ بعد عودتهما؛ فكانت مفاجأة لهما.. لكنّهما طلبا فترة للصلاة، تزامنت مع تأخُّر موعد السيامات إلى شهر مارس من عام 2000م، فكان ترتيبًا إلهيًّا.. إذ في تلك الفترة، ومع الصلاة أحسّا بالدعوة الإلهيّة، وسلّما نفسيهما بفرحٍ إلى تدبير الله العجيب، من خلال التكريس الكامل في خدمة الكهنوت.
تَقَرّر أن تكون السيامة في دير الأنبا بيشوي، يوم السبت 11 مارس سنة 2000م. فذهبنا لنبيت هناك في مساء يوم الجمعة. وعند تحديد الأسماء، طلب قداسة البابا من كلّ مرشّح كتابة ثلاثة أسماء بالترتيب، وسيختار هو منها.. وأتذكّر أنّ المهندس أسامة كتب اسم "كيرلّس" أولاً، و"أبرام" ثانيًا (إذ شارك في بناء كنيسته بمحرّم بك).. وقد اختار البابا الاسم الثاني!
كانت فرحتنا بسيامة أبونا أبرام لا توصَف، أمّا عن تأثير خدمته على الكنيسة، وعليّ بشكل شخصي، وما تعلّمته من خدمته الروحيّة النشيطة المنظّمة الباذلة على مدى السنين، فلا يمكن أن يتّسع لها هذا المقال، ولا حتّى كتب كثيرة، لكنّ الله الذي لا يضِيع عنده أجر تقديم كأس واحد من الماء البارد، هو الذي يرى ويكافئ كلّ واحد بحسب تعب محبّته..
أختتمُ المقال بحادثة طريفة، حدثت بعد سيامة أبونا أبرام بشهور قليلة.. كان يوم سبت، وكان المعتاد أن يجتمع قداسة البابا شنودة بنا نحن مجمع الكهنة أوّلاً في الصباح، ثمّ يبدأ في خدمة لجنة البرّ.. وفي مروره على حجرة لجنة البرّ وَجَدَنا واقفين مع بعض الآباء الكهنة، فسلّمنا عليه.. قلتُ له مشيرًا إلى أبونا أبرام الذي كان يقف بجانبي: "هذا أبونا أبرام، الكاهن الجديد معنا". فابتسم البابا وقال مُداعبًا بسرعة بديهته المعروفة: "إنت الكاهن الجديد، وحالاً بقيت من شيوخ الكهنة!" إذ كانت لحية أبونا يبدو فيها بعض الشعر الأبيض، على الرغم أنّ عمره وقت السيامة كان فقط 33 سنة!
يُسعدني جدًّا تهنئة أبي المحبوب القمّص أبرام إميل بمناسبة اليوبيل الفضّي لسيامته المباركة، شاكرًا الله الذي سمح بوجوده في حياتي، ملتمسًا لقدسه ولكلّ أسرته المباركة ملء النعمة والسلام، والفرح بثمار متكاثرة لمجد المسيح وبنيان الكنيسة المقدّسة.
"المحبّة لا تسقط أبدًا" (1كو13: .
القمص يوحنا نصيف
مارس 2025م
* الصور تعود إلى أعوام: 2000م (في منزلي مع كيرلّس ومايكل أولادي، وأبونا مرقس جبرة، وتاسوني نيهال) - 2001م (مع أبونا جوارجيوس ميخائيل نيّح الله نفسه) - 2003م (مع بعض الإكليروس من كنائس عديدة، في يوم الصلاة من أجل وحدة الكنائس).