هاني لبيب
خلال الأيام الماضية، تداولت صفحات السوشيال ميديا اختفاء بعض الفتيات المسيحيات المصريات، بعضهن «قاصر»، والبعض الآخر «بالغات رشيدات». وكالعادة، تتسم كل تلك الحالات بعدم توافر معلومات مُدقَّقة من جانب، وما يترتب عليها من أزمات اجتماعية تلاحق عائلات تلك الفتيات المختفيات، لكونها تمثل شكلاً من أشكال «العار» و«العزل الاجتماعي» من جانب آخر، فضلًا عن تجنب الحديث معهم والاختلاط بهم، وعدم الارتباط عائليًا بأبنائهم وبناتهم، والتلاسن عليهم ومعايرتهم بما حدث، والاستهانة بفداحة ما حدث لهم. وفى الخلفية، نجد ما يحدث على مواقع السوشيال ميديا من تأجيج منظم وموجه للطرفين المسيحى والإسلامى بالتحليل وإطلاق أحكام سابقة التجهيز، كل حسب وجهة نظره وفهمه، مع افتراض عدم توافر حسن النية فى غالبيتها.

الملاحظة الأساسية فى مثل هذه الأزمات والتوترات الطائفية أن اختفاء أى فتاة أو سيدة يمثل شكلًا من أشكال «العار الاجتماعي»، وكلما ظهرت المرأة على سطح الأحداث ارتبك المجتمع، وزادت النزعة الذكورية ضد المرأة. وفى الثقافة المصرية والعربية أيضًا، ترتبط المرأة بالعديد من المفاهيم المرتكزة على الثقافة الذكورية الرجعية والمتخلفة، وعلى سبيل المثال: الكرامة، والشرف، والعفة، والطهارة، فى مقابل العار والمهانة، وهو ما يجعلها محط الاهتمام الأول. وهو فى كل الأحوال استمرار لتكريس مسألة التمييز ضد المرأة، والتعامل معها بمنطق «التسليع» حتى فى الأزمات الطائفية، فى تجاهل تام لشخصيتها وكرامتها ورأيها وقراراتها.

فى ١١ مارس الماضى، كتب الصديق حمدى رزق مقالًا بعنوان (وأد الفتنة الطائفية بجلسات النصح والإرشاد)، ذكر فيه تاريخ تطور جلسات النصح والإرشاد من سنة ١٩٦٩ حتى إلغائها فى ٨ ديسمبر ٢٠٠٤ فى عهد اللواء حبيب العادلى (وزير الداخلية الأسبق). وكانت آخر جلسة نصح وإرشاد قد عُقدت فى واحدة من أخطر الأزمات والتوترات الطائفية، والمعروفة إعلاميًا بقضية وفاء قسطنطين. وتاريخيًا، فإن جلسات النصح والإرشاد لها قواعد قانونية تحكمها منذ إنشائها عام ١٨٦٣، حينما صدر أول قانون لها فى عصر الخديو إسماعيل باشا، والذى نص على عدم قبول إسلام أى مواطن إلا بعد حضور كاهن ومسؤول مدنى مسيحى مصرى للتأكد من جدية الطلب، وعدم وجود أية شبهة من أى نوع للضغط والإجبار.

أختلف تمامًا مع ما طالب به حمدى رزق فى فكرة عودة «جلسات النصح والإرشاد»، التى يطالب كثيرون بعودتها. كتبت مقالات عديدة، منها على صفحات «المصرى اليوم»، وطالبت كثيرًا منذ تأسيس المجلس القومى لحقوق الإنسان فى سنة ٢٠٠٤ بالقانون رقم ٩٤ لسنة ٢٠٠٣ بأن الأفضل لضمان حرية المعتقد هو ترك أمر تغيير الدين والتحول من دين إلى دين للجنة تابعة للمجلس القومى لحقوق الإنسان، لحياد أعضائه. وللتأكد من عدم التعرض للإجبار والإكراه، وعلى أن يتم تنفيذ توصياته بشأن كل حالة على حدة، طالما كان المتحول دينيًا راشدًا وكامل الأهلية، وهو ما من شأنه التأكيد على كفالة «حرية المعتقد»، وعلى احترام رغبة المتحول دينيًا، طالما كانت رغبته الشخصية الكاملة، ومع توافر فرصة لعائلة المتحول دينيًا للتأكد من وجود رغبة حقيقية دون ضغوط أو تهديدات، لتهدئة العائلات بعيدًا عن وصمهم بما يمس الشرف والعار.

المجلس القومى لحقوق الإنسان له وظيفة محددة فيما يخص الحفاظ على منظومة حقوق الإنسان المصرى فى مجملها لكل ما يندرج تحت مفهوم «حرية العقيدة» و«حرية الاعتقاد» أو «حرية المعتقد». ومن الأولى أن تُعقد جلسات التحول الدينى تحت مظلته باعتباره طرفًا محايدًا لا مصلحة له مباشرة سوى ترسيخ حقوق الإنسان، بل هو أهم مؤسسة منوط بها الحفاظ على الحريات والحقوق والدفاع عنها، وهو ما يجعلنا نضمن تمامًا استبعاد شبهة التشكيك بالرهبة والضغط النفسى لجلسات النصح والإرشاد التى كانت تتم تحت مظلة وزارة الداخلية فى مديريات الأمن. كما أن المجلس القومى لحقوق الإنسان سيكون هو الجهة المنوط بها الاستعانة باستشاريين نفسيين واجتماعيين للتأكد من حقيقة حرية التحول الدينى، فالأديان لا تخضع للأهواء، وليست لعبة لمن يعانى من تحديات مالية واجتماعية وعاطفية، فضلًا عن حضور أحد ممثلى المؤسسة الدينية كشاهد عيان على ضبط سير الإجراءات، دون شبهة الانحياز أو التوجيه أو الترهيب أو الضغط أو المساومة، وحتى لا يتحول الأمر إلى منافسة على الانتصار بين طرفين أحدهما كاهن مسيحى والآخر شيخ أزهرى، وحتى لا نكرر جلسات التهريج العرفى (الصلح العرفي) فى شكل جلسات النصح والإرشاد التى تستبعد القانون وتخالف الدولة المدنية المصرية.

نقطة ومن أول السطر...

الدولة المدنية المصرية هى الحل فى سبيل ترسيخ المواطنة والعدل والمساواة، المرتكزة على دولة القانون ونفاذ عدالته الناجزة.
نقلا عن المصري اليوم