القمص يوحنا نصيف
عندما يولَد الإنسان من الماء والروح، فإنّه ينضمّ لعضوية الملكوت، ويُكتَب اسمه في سفر الحياة، بحسب ما تُؤكِّد لنا صلوات المعموديّة في طقس كنيستنا الحبيبة؛ بل أيضًا هو يُغرَس في جسد المسيح، فيصير غُصنًا في الكرمة الحقيقيّة، وتسري فيه عصارة الحياة، ويصير خليقة جديدة، أو إنسانًا جديدًا مولودًا من الله.
وبعد الميلاد الجديد، ينال الإنسان بالميرون سرّ المسحة المقدّسة، فيصير هيكَلاً للروح القدس وإناءً طاهرًا لحلول الله فيه. ومع التغذِّي بجسد المسيح ودمه، وبكلمة الله الحيّة يومًا بعد يوم، ينفَتِح أمام الإنسان طريق القداسة لكي يتقدّم وينمو فيه؛ ومع مرور الوقت يُشَكِّل فينا الروح القدس ملامح المسيح. وهكذا يتحقّق هدف دعوة الله لنا، أن نكون مشابهين لصورة ابنه (رو8: 29).
من هنا نفهم أنّ الكنيسة هي صانعة القدّيسين، بعمل الروح القدس فيها؛ فهو الذي يقودنا في طريق القداسة والنصرة، ويمنحنا القوّة لتنفيذ وصايا الله، ويعزّينا أثناء سيرنا في الطريق الضيّق، ويُرشِدنا دائمًا إلى جميع الحقّ (يو16: 13).
أبونا القدّيس القمص بيشوي كامل هو نموذج لقدّيس صنعته كنيستنا الغنيّة بالروح؛ ولسبب عمق ارتباطه بالكنيسة وأمانته في التلمذة باتّضاع داخلها، فقد صار شجرة عظيمة تتآوى طيور السماء في أغصانها. وهو -من عمق خبرته- كان دائمًا يؤكِّد أنّ الروح الذي عمل في القدّيسين عبر كلّ العصور هو نفسه الذي يريد أن يعمل فينا الآن لنصير مثلهم؛ وأنّ القدّيسين كانوا أغنياء وأغنوا الكنيسة بعمل الروح القدس فيهم.
وكان يؤكِّد أيضًا أنّ تنفيذ وصايا يسوع هو الذي يجعل من الإنسان قدّيسًا، بصرف النظر عن سِنِّهِ وجنسه ومستوى تعليمه ودرجته الكهنوتيّة؛ حتّى أنّه في ذات مرّة أخذ يستعرض القدّيسين الموجودين على حامل الأيقونات في الكنيسة، واختار آيَةً تَمَيَّزَ بتنفيذها كلّ واحد وواحدة منهم، وقال أنّ تنفيذ هذه الآية هو الذي صنعَ من هذا الشخص قدّيسًا!
بعد خدمةٍ كهنوتيّةٍ استمرّت أقلّ من عشرين عامًا، تنيّح أبونا بيشوي في 21 مارس 1979م، ولكنّ حياته المُشرقة بالنور والفرح، وكلماته الحيّة المكتوبة والمسموعة، ورائحة سيرته الزَّكِيَّة المقدّسة لم تَمُتْ؛ بل كانت ولا تزال سببًا في رجوع كثيرين لحضن المسيح، وتلمذة الآلاف داخل الكنيسة القبطيّة الأُرثوذكسيّة وخارجها..
ونحن كأبناء له في الكنيسة، نعترف أنّنا لم نستطِع أن نستوعِب بالكامل كلّ الغِنى الروحي الذي كان يقدّمه لنا، أثناء حياته على الأرض، بل ظللنا بعد انتقاله من هذا العالم ننهَل بقدر طاقتنا من روحه الناريّة، من خلال ما تركه من كنوز مسموعة ومكتوبة.. إذ ظلّت شعلة المحبّة للمسيح التي رأيناها ولمسناها في حياة أبينا القدّيس تزداد توهُّجًا أمامنا مع مرور الزمن، مؤكِّدة لنا أنّ طريق القداسة مفتوح للجميع، وأنّ التلمذة لأبينا القدّيس القمّص بيشوي كامل ليست مقصورة على معاصريه الذين شاهدوه بالجسد، بل هي مُتاحة لكلّ الأجيال؛ وأن كنيستنا هي أمّ ولود، تُصَنِّع القدّيسين في كلّ زمان، وتجعلهم أنوارًا على الطريق، فيضيئوا بنور المسيح لكلّ العالم.
بركة أبينا القدّيس القمّص بيشوي كامل تكون معنا جميعًا. آمين.
القمص يوحنا نصيف
21 مارس 2025م