د. ماجد عزت إسرائيل
 في قلب أرض السامرة، حيث تتقاطع الطرق وتتقابل الجبال، يقع بئرٌ قديم نُسب إلى يعقوب أب الآباء. فيوجد بئرٌ حفرته الأيادي منذ آلاف السنين، ليكون مصدرًا للماء، دون أن يدرك أحد أنه سيصير يومًا موضع لقاء أبدي، بين السماء والأرض، بين الخالق والمخلوق، بين يسوع وامرأة  سامرية غريبة عطشى للحياة. فلم يكن المكان مميزًا من حيث الشكل، لكنه كان مختارًا إلهيًا من حيث التوقيت والهدف. فعند هذا البئر، جلس يسوع – الإله المتجسد – لا ليستقي ماءً فقط، بل ليسكب ماءً حيًّا في روح تائهة. فلم تكن المرأة السامرية تعرف من هو هذا الغريب الذي كسر كل حواجز الدين والجنس والتقاليد والأعراف في بادية الشام، لكنها وجدت فيه نظرة لم ترها من قبل… نظرة تُشبع العطش الذي لا يرويه ماء الأرض.هنا تبدأ أجمل قصة عطش في الكتاب المقدس… عطش الإنسان للقبول، وعطش الله لخلاص الإنسان.

 ويقع بئر يعقوب عند فوهة وادٍ بين جبل جرزيم وجبل عيبال، في المنطقة المعروفة باسم شكيم، والتي تُدعى اليوم بلاطة، بالقرب من مدينة نابلس شمال الضفة الغربية. وفي هذا المكان تحديدًا، حيث تنحني الجبال ويصمت الطريق، حفر يعقوب هذا البئر، وسجله الكتاب المقدس كأحد أبرز معالم أرض كنعان. وفي وصف دقيق للموقع، إذ يقول إنجيل يوحنا: "وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ." (يو 4: 6).
     
  وقد يبدو البئر من الخارج بسيطًا: فتحة حجرية عميقة، بلا زخارف ولا نقوش. ولكنه يحمل بين أعماقه ذاكرة الآباء، وشهادة على الأمانة الإلهية التي رافقت نسل يعقوب عبر العصور. وهذا البئر، الذي ارتوى منه الآباء، صار بعد مئات السنين موضع لقاء بين يسوع والمرأة السامرية – لقاء لم يُروِ ظمأ الجسد فحسب، بل كشف عن نبع لا ينضب، نبع الحياة الأبدية. وبينما كان العابرون يأتون إلى هذا البئر ليستقوا ماءً، جلس يسوع عليه، لا كعابر سبيل، بل كمن ينتظر نفسًا تائهة، ليحوّل المكان من بئر ماء إلى منبع نعمة.

 الحقيقة التاريخية كان المكان عاديًا… مجرد بئر في أطراف قرية تُدعى سوخار. ولكن هذا الموضع البسيط أصبح مكان لقاء بين الخالق والمخلوق، بين النعمة والاحتياج، بين يسوع وامرأة سامرية لم تكن تعلم أن يومها العادي سيُغيَّر إلى الأبد. حيث خرجت تلك المرأة في الظهيرة، حين كانت الشمس حارقة والناس بعيدين، ربما هربًا من نظرات العار وكلمات الإدانة. لكنها لم تكن تعرف أن عين الرحمة نفسه كان ينتظرها. فما إن اقتربت حتى قال لَهَا يَسُوعُ: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ»" (يو 4: 7).  فكانت مندهشة: كيف يطلب منها، وهي امرأة سامرية، بينما هو يهودي؟ لكن يسوع، كما يفعل دائمًا، لم يلتفت إلى الحواجز البشرية، بل إلى عطش الروح. فقال لَهاَ: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا»." (يو 4: 10). وما هذا الماء الحيّ إلا الروح القدس، الذي يروينا من الداخل ويحوّلنا من طالبي حب مؤقت إلى أبناء فرح أبدي. قَالَ لَهاَ أيضًا: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا. وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».(يو 4: 13-14) ومع كل كلمة، كانت الجدران داخلها تتصدع… لم يُدنها يسوع، بل كشف قلبها بلطف. وقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «حَسَنًا قُلْتِ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ،" (يو 4: 17). "لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ»." (يو 4 :17- 18).فلم تَهرب"السامرية"، لم تُنكر، بل بقيت، وشيئًا فشيئًا أدركت أنها أمام شخص يعرفها بأمانة لا تُدين، بل تحرر.حين قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ». فقَالَ لَهَا - أجابها يسوع بكلمات نادرة الظهور- يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ»." (يو 4: 25-26).  وهنا حدث التحول العظيم. فتركت جرتها،كأنها تركت ماضيها، وهمّها، وخوفها، وذهبت تبشّر السامرة دون خوف: "«هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟»" (يو 4: 29).

   وأخيرًأ، هذا اللقاء ليس فقط للسامرية…بل لكل قلب عطشان،ومتعب، ومكسور. فما زال يسوع يجلس عند آبار حياتنا، منتظرًا أن نقترب إليه لا لنُدان، بل لنُشفى. فهو لا يحتاج منا إلا أن نأتي كما نحن، بجراحنا، بعطشنا، بحيرتنا… وسيتكفل "وَالرُّوحُ وَالْعَرُوسُ يَقُولاَنِ: «تَعَالَ!» وَمَنْ يَسْمَعْ فَلْيَقُلْ: «تَعَالَ!» وَمَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْتِ. وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّانًا." (رؤ 22: 17). فاليوم، في أحد السامرية، نتذكّر لقاء الرحمة الذي بدّل العار إلى رسالة، والعطش إلى نبع حياة. كل عام وأنتم تقتربون من السيد المسيح، المخلّص، الذي لا يزال جالسًا عند "بئر القلوب"، منتظرًا أن يرويها بنعمته الغامرة.