بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر
الأيقُونات تُمثل جزءً في المبنى الكنسي، تملأ كُل جُوانب الكنيسة: الهيكل المُقدس، وصحن الكنيسة، وحجرة المعمُودية، فإنها في الحقيقة ليست حُليات للزينة، ولا هي قطع فنية تعكس ثقافات معينة، أو مُجرد تعبير فني تُقدمه مشاعر دينية تقُوية..
الأيقُونات في حقيقتها السرّية هي: رسالة إنجيلية تقُوم بدُور تعليمي ولها فاعليتها في حياة الكنيسة التعبدية، فمن خلال لغة الألوان البسيطة تُعلن الأيقُونات الإنجيل المُقدس، وتوضح وتظهر تعاليم الكنيسة، وتنطلق بمشاعر المُؤمنين إلى الحياة العتيدة حيثُ الحياة الأبدية (يو16:3؛ 3:17)..
الكتاب المُقدس في الحقيقة ما هُو إلاّ أيقُونة إلهية سماوية، صُورها الرُوح القُدس ليُعلن لنا بلغتنا البشرية حُب الله نحُونا، وتدبيره لخلاصنا، والدخُول بنا إلى المجد الأبدي (غلا1:3؛ 17:6)..
هذه الأيقُونة المكتُوبة لا تكمُن قُوتها في الحرُوف ذاتها، إنما في الرُوح السرّي العميق الواهب الحياة، والقادر أن يجتذب النفس إلى خبرة الحياة مع الله، ومن ناحية أخرى فهي: كتاب مفتُوح للجميع مُسجل بلغة الألوان البسيطة، صُورت بقصد تعمق شركتنا مع الثالوث القدُوس، وسحب النفس إلى ما وراء العالم والمادة، إلى عالم الرُوح والخلُود..
الأيقُونات تصُور لنا أحداث العهد القديم، والعهد الجديد، كما تصُور لنا علاقتنا بالسماوات والسمائيين، وتُلهب نفُوسنا شُوقاً نحُو الأمجاد، وتُوضح لنا أسرار الكتاب المُقدس ومفاهيمه، وتعاليمه، ورُوحه..
إن سألك وثني عن إيمانك، خُذه إلى الكنيسة وأقمه أمام الأيقُونات..
يتساءل البعض: إن كانت الأيقُونات المُقدسة إنجيلاً مفتوحاً، فما هُو موقف الكنيسة من الوصية المُوسُوية القائلة: لا تصنع لك تمثالاً منحُوتاً ولا صُورة ما مما في السماء من فُوق، وما على الأرض من تحت، لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرّب إله غيُور؟ (خر5:20)..
تلتزم الكنيسة المسيحية بلا شك بالوصية السابقة، لكنها تحفظ رُوح الوصية لا حرفها، لأن الحرف يقتل وأما الرُوح فيحيّ، فرُوح الوصية هُو وقف كُل تسلّل وثني إلى العبادة، وليس منع استخدام الصُور في ذاتها..
عرف الشعب اليهُودي بتعرضه للسقُوط في نُوعين من الانحراف:
أولاً: الامتثال بالوثنيين المحيطين بهُم، كما سقط سليمان الملك في عبادة الآلهة الغريبة، وذلك عندما تزُوج بوثنيات كثيرات أملن قلبه..
ثانياً: الخلط بين العبادة الوثنية وعبادة الله الحيّ، كما يظهر من عبادتهُم للعجل بقصد التعبد لله الحيّ خلال هذا العمل الرمزي (خر5:32)..
لقد أعطيت هذه الوصايا لليهُود بسبب ميلهُم للوثنية، أما الآن فلا حاجة لنا بعد أن كُنا منقادين كالأطفال، فالوصية قُدمت لنا لمنع قبُول الخرافات لنكُون مع الله في معرفة الحقّ والتعبد له وحده، والتمتع بكمال معرفته، الآن اجتزنا مرحلة الطفُولة وبلغنا كمال الرجُولة، تقبلنا من الله القُدرة الذهنية فنعرف جيداً: ما يصُور وما لا يصُور، وكأن الكنيسة تلتزم بحفظ الوصية لا بعدم استخدام الصُور، وإنما برفض إساءة استخدامها، لهذا حرصت في استخدام الصُور حين عاشت وسط الشعُوب الوثنية في القرُون الأولى، وعندما زال خطر الانحراف نحُو الوثنية تُوسعت في استخدامها..
أن منع الصُور في العهد القديم قام جُوهرياً على عجز الشعب اليهُودي عن التمييز بين العبادة الخاصة بالله وحده، والتكريم الذي يمكن تقديمه لغير الله، أما المسيحيُون وقد اجتازُوا مرحلة الطفُولة صارُوا قادرين على التمييز بينهما، فليس هُناك مانع لاستخدام الأيقُونات، إذ هُم يستطيعُون ألاّ يمزجُوا بين التعبد للسيد المسيح، وتُوقير أيقُونته المُقدسة، فالله كطبيب حاذق يُقدم العلاج حسب حالة المريض وعمره، فيمنع عن بني إسرائيل أمُوراً يبيحها للمسيحيين، والوصية تهدف إلى غاية واحدة: ألاّ نعبد شيئاً مخلوقاً أكثر من الخالق، ولا نُقدم سجُود العبادة إلاّ لله وحده..
يقصد الله بالسجُود هُنا العبادة، إذ يقُول: لا يكُن لك آلهةٌ أخرى غيري لا تصنع لك تمثالاً منحُوتاً ولا صُورة...لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرّب إلهك إلهٌ غيُورٌ، ويقُول أيضاً: اطرحُوا مذابحهُم، حطمُوا تماثيلهُم احرقوا بساتينهُم بالنار، وحطمُوا أصنامهُم، لا تسجدُوا لإله غريب، ويقُول: لا تصنعُوا لكُم آله من المعدن (خر3:20-5)..
ليس عجيباً أن الله الذي قدم وصايا واضحة بخصُوص الصُور، يأمر شعبه أن يُقيمُوا صُوراً مُعينة ومُحدّدة، لا كحلي يتزين بها بيت الرّب، وإنما كجزء حيّ في الطقس التعبدي، فخيمة الاجتماع والهيكل قد جاءا برسم إلهي أيقُونة مُبدعة تصُور السماويات (خر40:25؛ عب5:8)، كما احتُويا صُوراً مثل تمثالي الكارُوبيم على غطاء تابُوت العهد، وتمثال الحية والثُور النحاسي، وهذه شهادة أن الله في الوصية الأولى لم يحرم الصُور، إنما أراد بالمنع تحديدها بنفسه فقام بتصميمها، وتحديد أبعادها وموادها..
قامت وصية تحريم الصُور على أساس عدم إمكانية تصُور اللاهوت فإن الله غير محدُود، ولا منظُور، وهذا ما أكده الرسُول بُولس في وسط أريُوس باغُوس في أثينا إذ قال: فإذ نحنُ ذُرّية الله، لا ينبغي أن نظُن أن اللاهوت شبيهٌ بذهبٍ أو فضةٍ أو حجر نقش صناعة واختراع إنسانٍ، فالله الآن يأمر جميع الناس في كُل مكانٍ أن يتُوبُوا، مُتغاضياً عن أزمنة الجهل (أع29:17-31)، أما في العهد الجديد قامت المسيحية تحمل في جُوهرها إعلان الله نفسه خلال ابنه المتجسد، الله لم يره أحدٌ قط الابن الوحيد الذي هُو في حضن الآب هُو خبر، معلناً بتجسده صُورة الله أو أيقُونته، مَن رآني فقد رأى الآب (يو18:1؛ 8:14-10)..
بالتجسد الإلهي أظهر الله نفسه على الأرض بشكل منظُور، إذ حمل جسداً يُمكن تصُويره، وخضعت حياته إلى أحداث يُمكن رسمها في أيقُونات كما يُمكن تسجيلها بالكلمات، إذ أخذ غير المنظُور جسداً منظُوراً تستطيع أن ترسم لهيئته شبهاً، لقد كان رُوحاً مجرداً ليس له هيئة مُحدُودة مُعينة ولا يمكن قياسه، أو تحديد طبيعته إذ هُو الله، لكنه وقد أخذ شكل العبد من جهة وجُودنا وهيئتنا وحمل جسداً تستطيع أن تظهره لمَن يريد التأمل فيه..
صُور تنازله الذي لا يُوصف وميلاده البتُولي وعماده في الأردن وتجليه على جبل طابُور، وآلامه وقدرته وموته، ومعجزاته دليل لاهوته، والأعمال التي صنعها وهُو في الجسد بقُوة لاهوته وصعُوده إلى السماوات..
هُو صُورة الله غير المنظُور، وبهاء مجده ورسم جُوهره، يسُوع المسيح الذي رُسم مصلُوبا (غلا1:3؛ كو15:1؛ عب3:1)..
التجسد الإلهي قنطرة تربط بين الله غير المنظُور، والبشر المنظُورين وتُوحد بين الحياة السماوية والأرضية، نزل الله الكلمة بالسماء إلى الأرض ليعيشها الأرضيُون، وقدس أرضهُم وحياتهُم المنظُورة لترفعهُم إلى ما وراء المنظُورات، كأنه بالتجسد الإلهي قد فتح الرّب للعالم طريقاً جديداً للعبادة فيه لا نرى الأمُور المنظُورة، كفن الأيقُونات عائقاً للرُوحيات، بل نراه فناً مُقدساً يُعين النفس للتمتع بالأبديات، وعلى ضُوء التجسد صار للأيقُونات المُقدسة إمكانية الكشف عن الأبعاد الرُوحية السماوية..
ترتبط الأيقُونات بفن الوعظ والكتابة، فالعظة لوحة فنية والمُتكلّم كرسام فإن كانت الكتابة والعظات هي أيقُونات لفظية، فالأيقُونات هي عظات وكتب مرسُومة، مُسجلة بلغة بسيطة جامعة، يقرأها الكُل دُون تمييز بين لسان ولسان، يترجمها الأمي بلغة البساطة كمن يقرأ كتاباً أو يسمع عظة، ويتلمس فيها المتعلّم ما تعجز الكتابة الإفصاح عنه، فهي لغة الكنيسة الجامعة، فإن سألك وثني عن إيمانك، خُذه إلى الكنيسة وأقمه أمام الأيقُونات..
في إحدى الأمسيات وأنُوار القناديل أمام الأيقُونات تعكس شعاعاً خفيفاً دخل شاب، سار حتى باب الهيكل، ووقف أمام الأيقُونات قليلاً، ثم عاد والدمُوع تجري من عينيه، لقد كان عازماً على الانتحار، فخرج من بيته يشتري أقراص منومة، وفي الترام لمح بصيصاً من النُور يظهر خلال نوافذ الكنيسة، فوضع في قلبه أن ينزل ويصلي قبل أن يرحل..
وفي لحظات في جُو الكنيسة الهاديء، وأمام الأيقُونات لم يستطع أن يحبس دمُوعه، وهُو يقُول: هل أحرم من صحبة هُؤلاء القديسين في الرّب؟ وبعد أن رأي أيقُونات الشهداء، وتذكّر أكاليلهُم الأبدية تشدّد بالرّب..
كانت ليلة فيها تغيّرت كُل حياته الرُوحية والنفسية، بل تغيّرت شخصيته إذ ملأ السلام قلبه، وانعكس ذلك على علاقاته بالآخرين، لم يكن ذلك بفعل كتاب قرأه أو عظة سمعها، أو نصيحة وجهت إليه، لكنه عمل الرُوح القُدس الذي اجتذبه (يو44:6؛ 1كو3:12)، خلال الأيقُونات المُقدسة..
إن كانت الصُور الخليعة تفسد أنظار الكثيرين، وتُدنس أفكارهُم، وتعثر نفُوسهُم النقية، فإنه على العكس الأيقُونات المُقدسة هي أداة تستخدمها النعمة الإلهية لتسند الفكر في انشغاله بالله، وتُلهب القلب بالتُوبة المُستمرة وتنطلق بالنفس شُوقاً نحُو السماويات، والتعلّق بالرّب يسُوع المسيح..
إن كان المبنى الكنسي ككُل، إنما هُو: رمز الحياة السماوية، فلا عجب إن تُزين كُل جزء منه خاصة حامل الأيقُونات، برمُوز مسيحية كالصلبان والسمك والحملان، والكرُوم والحمام، والأثمار والزرُوع...الخ