أحمد الجمال
أدين باعتذار للعلم والمعلومة وللسلطان الناصر محمد بن قلاوون وللقارئ الكريم.

ذلك أننى عندما أعدت قراءة مقال الأسبوع الفائت عن الروك الناصري- أى مسح الزمام أو قياس أرض مصر وتثمينها- الذى قام به الناصر محمد، بعد نشر المقال، اكتشفت أننى أغفلت كلمة أو كلمتين، ربما لخداع البصر أو لنقص السكر، لأننى كتبت فيما كنت أنا صائم، وأدى إغفالهما إلى عكس الحقيقة التى هى أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون أبطل أو أوقف أو ألغى الضرائب التى كانت مفروضة على الشعب المصرى قبل توليه الحكم، ومنها ضريبة «مكس ساحل الغلّة»، التى فصّلتها فى مقال الأسبوع الفائت، ونسبت فرضها إليه بينما الحقيقة التاريخية هى العكس.

وقبل أن أستكمل ما ترتب على «الروك الناصرى» من آثار، أود أن أشير إلى أننى ولأول مرة فى هذا العمر الثمانينى، أعرف معنى كلمات رددتها فى طفولتى وصباى، منها كلمة «سرّاباتى» وعبارة «فى كسحة»، حيث لم تكن المجارى أنشئت فى كثير من الأحياء الشعبية التى نشأت على أطراف المدن، ولا فى الغالبية العظمى، إن لم يكن كل القرى المصرية، وكان الصرف الصحى للبيوت يصب فى خزانات «مجارير- جمع مجرور»، أو «بكابورتات- جمع بكابورت» محفورة داخل الدار الفلاحية، أو فى الحارة بجوار الحائط الذى تخرج منه البرابخ «جمع بربخ»، وهى مواسير مصنوعة من الفخار السميك، لتمتلئ المجارير بالفضلات، فإذا طفحت استدعى رجل مهنته نزح المحتويات بواسطة جردلين كبيرين، يملؤهما ليحملهما معلقين فى عارضة خشبية أو قطعة بامبو غليظة ممتدة على عاتقه، أى فوق أكتافه.. وكانت هذه المهنة تسمى «سرّاباتى» مشتقة من «سرَّاب»، وهو «المجرور» الخاص بالجامع أو المدرسة أو الدار، وتسمى العملية نفسها «كسح المجرور».

ومن «سرَّاب»- راء مشددة مفتوحة- جاءت كلمة أخرى هى «سرَّابة»، لأن الجرادل الممتلئة إياها كانت ترتج أو تتمايل بثقلها فيندلق محتواها، تاركًا مساره المزدوج، على مسار الرجل.. وكنا نسمى من تعوّد على الاعتداء على حقول الفول أو البرسيم أو القمح «أبو سرابة»، لأنه كان يترك أثر اقتحامه للحقل على النباتات التى دهسها فصارت «سرابة»!.

وكنا نزعق إذا غضب من يستحق الغضب وقرر الانصراف «فى ستين كسحة»، وكأنه البعيد فضلات كريهة لابد أن تكسح!.

وأعود إلى سلطاننا الناصر محمد بن قلاوون، لنجد أن من بين الضرائب التى أبطلها ضريبة اسمها «مقرر المشاعلية»، لأن الحكام قبله فرضوا ضريبة باهظة على كسح السراب أو المجارير، وكان من يطفح مجروره أو بكابورته لابد أن يحصل على إذن، وأن يدفع الضريبة وإلا لا يصرح له، وتمتلئ داره وحارته بالطفح.

وأبطل النصر أيضًا ضريبة اسمها «نصف السمسرة» التى فرضت على كل من باع شيئًا أن يدفع للدلال درهمين على كل مائة درهم.. ولما تولى الوزارة أحدهم، واسمه ناصر الدين شيخى، فرض على الدلال توريد درهم من كل درهمين، وبالتالى زاد الدلالون ما يأخذونه من الناس.

ثم أبطل ضريبة اسمها «رسوم الولاية»، وكانت تجبى من المشرفين على الأسواق وعلى بيوت الفواحش، أى الدعارة، وكان يحصلها مسؤول تحت يده عدة صبيان، وعليها جند يعملون لحساب أمراء، وتقول المصادر إنها كانت تشتمل على ظلم شنيع وفساد قبيح وهتك أقوام مستورين وتهجم على بيوت أكثر الناس.

ثم ألغى ضريبة «الدواب والبغال»، حيث كانت تجبى عن كل دابة ثلاثمائة درهم وعن كل بغل خمسمائة درهم.

أما أعجب الضرائب فكان اسمها «مقرر السجون»، إذ كان المسجون بمجرد دخوله السجن- ولو للحظة واحدة- فعليه أن يدفع للسجان ستة دراهم، وكان الولاة يعمدون لسجن كل من يصل إلى ساحتهم، حتى لو كان رجلًا متخاصمًا مع زوجته أو ابنه.

ومعها أبطل الناصر ضريبة اسمها «مقرر طرح الفراريج» جمع فروج، أى كتكوت، وكانت تجبى على الكتاكيت إذ كان لا يمكن لأحد من الناس أن يشترى كتكوتًا «فروجًا» أو أكثر إلا أن يدفع المقرر، ومن يضبط وقد اشترى أو باع فروجًا بغير طريق جابى الضريبة جاءه الموت من كل مكان.

وأبطلت أيضًا ضرائب الأقصاب «جمع قصب» والمعاصر التى كانت تجبى من مزارعى قصب السكر ومن أصحاب المعاصر.. وضريبة رسوم الأفراح التى كانت تجبى من أى أصحاب أى عرس أو فرح يقام، وضريبة «حقوق القيّتات» جمع «قينّة» ياء مشددة مكسورة، وهى الفتاة التى تمتهن الفواحش والمنكرات، وكان يجبيها موظف هو «مهتار الطشتخاناة السلطانية» من أوباش الناس.

ثم ضريبة «شد الزعماء» وتؤخذ من الذين يمارسون الفاحشة فى الخانات، ذكورًا وإناثًا.. وأخيرًا أبطل الناصر محمد بن قلاوون ضريبة «متوفر الجراريف»، وكانت مفروضة على كل من يستخدم جاروفًا لجرف الأرض!

وفى الحقبة التاريخية الكثير عن السلطان الناصر، خاصة أنه تولى الحكم ثلاث مرات، استمر آخرها حوالى ثلاثين سنة، وفيها حدثت فتنة رهيبة ذاق فيها الأقباط المسيحيون ما هو أكثر من المرارة.. وكل ذلك نقطة من بحر المظالم التى عاشتها المحروسة!.
نقلا عن المصرى اليوم