بقلم: مرثا فرنسيس

 كيف قبلتَ أن تأتي وسط هؤلاء البشر قساة القلوب؟ كيف قبلتَ أن تولد في أرضِ الشقاء والعناء رغم إنك خالق الكون، كيف رضيتَ أن تولدَ فقيرا ليس لك مكان يليق بك لتولد فيه؛ الا مذود بسيط فقير وانت مُلككَ السماء والأرض، كيف قبلت أن تنشأ وتشُب في مكان متواضع مع رجل بسيط ليقوم برعايتك وأنت الذي لا تنعس ولا تنام لتحفظ كل من صنعتهم يداك، وكان جديرا بك إذا ولدتَ على الأرض أن يكون لك اباً من علية القوم ومن أغنى أغنياء الملوك، كيف رضيت ان تعمل بيديك وأنت تملك كل مقاصير الحياة وكنوز الأرض.


كيف قبلتَ أن تولد لأم لا تملك الا نقاء قلبها وخضوعها الواعي، أم قبلت هذه المهمة الصعبة في وسط مجتمع قاس يُحمِّل المرأة مسئولية أخطائها وأخطاء الغير. أم كانت تعلم أنه سيجوز في نفسِها سيف بفراقك وأنت في ريعان الشباب ولكنها كانت تدرك جيداً أنك الوحيد الذي تستطيع وتصلح لهذه المهمة الصعبة. 
 
كيف قبلتَ ان تقضي الساعات و الليالي تجول تصنع خيراً حتى مع من رفضوك وهاجموك ولم يصدقوك، كيف قبلتَ أن تمُد يد الشفاء والحب لكل من يحتاج لهما مهما كان وضعه الاجتماعي ومستواه وموقفه منك ايضا! كيف قبلتَ أن يُجربك من كانت لديهم النبوات التي تؤهلهم أن يعرفونك ويتوقعون مجيئك، كيف قبلتَ أن يُنكرك أحد تلاميذك ويخونك آخر ويُسلمك لقاتليك، كيف قبلتَ وتحملتَ عذاب القلب ومعاناته من قسوة الأحباء وخيانة الأصدقاء، كيف قبلتَ أن تأكل وتشرب مع الخطاة الاثمين ولم تستحِ منهم، بل ناظرا في عيونهم  بحب مؤكدا لهم أن كل منهم انسان غالي وله قيمة عظيمة، كيف قبلتهم وأحببتهم، كيف قبلتَ أن تدخل بيوتهم ولم تخش على نفسك بكل نقاوتك وطهارتك- لم تخش على نفسك من مكائدهم وهجومهم الحاد عليك ومحاربتهم لك ولتعاليمك السامية، كيف قبلتَ أن يناقشك من يتصيدون لك الأخطاء، بينما هم غارقون في الشر، كيف استطعت برحابة صدر أن تفسر لهم وتشرح لهم حتى يعرفون الحق فينالوا الحرية، وأنت تعلم جيداً أنهم لا يعرفون الا قشور وطقوس العبادة. كيف رضيتَ وانت المثل الأعلى والقدوة الرائعة، كيف قبلت عنادهم وكبريائهم وبطول اناة كنت تشرح لهم بأمثال حتى يفهمون ويدركون مقاصدك النبيلة ويتذوقون معنى وطعم الحب الحقيقي الذي هو أساس العبادة والصلاة، بحكمةِ استطعتَ أن تكسر جمود الشرائع و تعطي معنى وعمق روحي لها، لتبدأ من اعماق الانسان وليس فقط من شفتيه، وبحب قدرتَ أن تضع يدك على مكان الداء الروحي والجسدي وبسلطان كلمتك تطلق الشفاء.
كيف قبلتَ أن تحمل صليب العار وانت الذي لم تُخطئ أبدا ولم يوجد في فمك مكر أو غش،  بل وكان في قدرة يدك أن تترك الخاطئ ليتحمل نتيجة ما ارتكب، كيف يمكن أن  يكون هناك قلب يملك كل هذا الحب ولا يخصه بالمستقيمين فقط أو بالمراكز العليا فقط أو بشعب مميز فقط، كيف يمكن لهذا القلب ان يزداد حباً كلما أعطى ويزداد تضحية كلما أحب .
 
كيف قبلتَ أن توجه لك الاتهامات وأنت ديان العالم، ورضيت أن يتجاسر عليك الجنود والعبيد وأنت ملك الملوك ، كيف تركت ظهرك للسياط ويداك للمسامير، كيف تركتهم يطعنون جنبك ويسمرون قدميك، وأنت الذي مشيت ساعات طويلة للسامرية وفتحت أحضانك لجابي الضرائب! 
 
كيف قبلتَ أن يُدفن جسدك في قبر وأنت معطي الحياة، ورضيت أن تواجه الموت عني وأنت روح الحياة. 
 
كيف قبلتَ أن تحمل خطيتي حتى تحررني  وتأتي بي الى محضرك ليس لتأخذ مني بل لتمنحي راحتك وسلامك وترفع عني ثقل الإحساس بالذنب الناتج عن الخطية، أردت لي ان يفرح قلبي الفرح الحقيقي الذي لا يعطيه مال ولا جاه ولا سلطان، وأردتني أن احيا في سمو  فأدرك معنى  
الانسانية، وأفتخر بأنني أنتمي لها، أعطيتني أن اُميز بين العبودية للخطية وبين التحكم في الغرائز والشهوات.
 
قبلتَ هذا وذاك حتى أعود كما خلقتني مخلوق خالد أبدي حتى لو جاء إليه الموت فستحيا روحه، فإن النسمة التي نفختها فيه خالدة لا تموت إلى الأبد.قبلتَ هذا ليدرك كل إنسان معنى كونه إبنا شرعيا لك وليس خادما أو عبدا. 
 
هل حقا قبلت كل ذا فقط لأنك تحبني؟ هل يمكن للحب وحده أن يكونَ دافعا لكل هذه التضحية؟ كيف يمكنني تجاهل حبك؟ كيف يمكنني الاستغناء عن مثل هذا الحب الباذل المحتوي، أسأل نفسي أمامك: كيف يمكنني أن أبادلك كل هذا الحب، في ضعف الجسد وصعوبة الحياة، وهل يمكن لشئ ما أو خطأ ما أو ضعف ما أن يحرمني هذا الحب فأفقده مرة ثانية؟ هل يستطيع قلبي الصغير هذا أن يحبك كما تستحق؟
هذه أنا.
 
من نبع هذا الحب أقدم محبتي للجميع