سمير مرقص
(١) «الأنبا باخوميوس عاش للخير العام الكنسى والوطنى»
لا يحتاج أى إنسان عرف الراحل الكبير نيافة الأنبا باخوميوس مطران البحيرة (١٩٣٥- ٢٠٢٥) إلى وقت لكى يدرك أنه أمام رجل دين من نوع خاص، ولن أكون مبالغًا إذا قلت: «استثنائى». فلقد جمع فى شخصه الكريم الكثير من الفضائل التى وظفها من أجل الخير العام: الكنسى والوطنى. وأشهد أننى منذ التقيته للمرة الأولى فى ١٦ يوليو من العام ١٩٨١ وحتى آخر مرة التقينا فيها بأنه لم يتخل يومًا عن رسالته فى تحقيق الخير العام. كان هدف اللقاء هو تسجيل شهادته حول حركة مدارس الأحد فى إطار دراسة تاريخية كنت قد بدأتها آنذاك. فالرجل كان يعتبر أحد أبناء الجيل الثالث من أجيال حركة مدارس الأحد التى تعتبر حركة نهضوية وإصلاحية وتحديثية كنسية أسسها «الأستاذ حبيب جرجس» (١٨٧٦- ١٩٥١) واكتسبت شرعية مؤسسية بقرار بابوى فى العام ١٨٩٨. إذ تولى مسؤولية السكرتارية العامة لمدارس الأحد المسؤولة عن التعليم الكنسى فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى عام ١٩٥٦. وفى عبارة له من حديثنا كيف حرص على أن «يقتدى بأفضل ما لدى كل واحد من رواد مدارس الأحد ممن سبقوه». لذا نجده جمع بين: الصرامة/ القوة والرقة/ المرونة. والحسم وطول الأناة. والصلاة والعمل. والعلم/ التخطيط/ الإدارة والاتكال على الله. والشدة والحنان. والتنمية الخادمة والخدمة التنموية... إلخ. وبالنسبة للأخيرة فلقد كانت لى معه تجربة امتدت لثلاثة أعوام.

(٢) «الخدمة التنموية والتنمية الخادمة للجميع»
فى عام ١٩٨٧، وكنت أعمل فى إحدى الهيئات التنموية تواصل الأنبا باخوميوس مع الهيئة لتنفيذ بعض المشروعات التنموية فى دمنهور وعدد من قرى إيبارشية البحيرة التى كان مسؤولًا عنها الأنبا باخوميوس منذ أن نصبه عليها البابا شنودة الثالث فى ديسمبر ١٩٧١- الإيبارشية كلمة يونانية تعنى المنطقة أو المساحة الجغرافية التى يرعاها الرئيس الدينى أو الأسقف/ المطران روحيًا- وعلى مدى أربعة أعوام مدة عمر المشروعات التى طبقت فى تلك الفترة، كان الأنبا باخوميوس حريصًا على عدة أمور: أولها: شمولية المشروع وضرورة توفر العناصر الصحية والتعليمية والتوعوية... إلخ، وتكاملها. ثانيها: أن يصمم المشروع التنموى بحيث يكون قادرًا على أن يكون للجميع دون تمييز. ثالثها: أن يكون المشروع، بحق، تنمويًا ولا يستسهل الخيرية، حيث إن للخيرية سبلًا أخرى يمكن تقديمها عبر الخدمات الروحية. وفى هذا المقام، لابد من ذكر ما يلى: أولًا: بالرغم من أن الأنبا باخوميوس كان يمثل الكنيسة فى عدد من المحافل المسكونية خارج مصر (مجالس تجمع الكنائس المختلفة العالمية) إلا أنه اتخذ قرارًا حاسمًا مطلع الثمانينيات بالتوقف عن السفر، حيث إنها تعطله عن ممارسة مسؤولياته الرعوية والتنموية. ثانيًا: كان مدركًا أهمية التنمية فى تأمين الاحتياجات الأساسية للإنسان- كل إنسان- وكان دائمًا يستعيد نموذجًا وضع أساسه باعتباره تجسيدًا للشمولية والاستدامة، ألا وهو «مستوصف كان يقدم خدمات صحية متكاملة» فى منطقة اسمها «أبوالريش»- إن لم تخنى الذاكرة- بدمنهور، إضافة إلى نشاطات أخرى.

(٣) «الأنبا باخوميوس: حضور استثنائى فاعل

فى زمن الحراك»

كان للأنبا باخوميوس حضور استثنائى فاعل فى المشهد المصرى خلال الفترة ما بعد حراك يناير ٢٠١١ حتى تمرد ٣٠ يونيو. فلقد حرص أولًا عقب انطلاق حراك يناير أن يوفر توعية عامة بطبيعة الحراك وسيناريوهات المستقبل ودور الكنيسة فى هذا السياق الحراكى من خلال ندوات توعية وتثقيف لرجال الدين بإيبارشيته شاركت فى إحداها. وعقب اختيارى نائبًا لمحافظ القاهرة فى أغسطس ٢٠١١ تلقيت اتصالًا هاتفيًا عقب حلف اليمين للتهنئة وللتوصية بأن أقدم نموذجًا للخدمة العامة نزيهًا وشاملًا للجميع. وما إن شاءت الأقدار بأن يكون قائم مقامًا بابويًا بعد رحيل البابا الكاريزمى شنودة الثالث، لما يقارب التسعة أشهر من مارس إلى نوفمبر ٢٠١٢، حوَّط نفسه بأهل الخبرة فى شتى المجالات ليستأنس بآرائهم ويؤمن القرارات التى يتخذها فى مرحلة تاريخية فارقة، وذلك عبر الاجتماعات المكثفة المتتالية والاتصالات الهاتفية الصباحية المبكرة المتكررة. وأذكر كيف اتصل بى عندما اعتذرت عن عضوية اللجنة الدستورية الثانية التى تشكلت فى يونيو ٢٠١٢، من خلال استقالة مسببة مقتضبة، ليستعلم عن ملابساتها، ترتب عليها اجتماع مطول لشرح ما قصدته بما ورد فى نص الاستقالة: بدستور الغلبة وشرعية الإكراه تفصيلًا. ما دفعه، وبعد استمزاج كثير من الآراء، أن يدعو إلى اجتماع للبت فى انسحاب الكنيسة من اللجنة الدستورية. وما أن توافق الحضور على ضرورة الانسحاب حتى كلف نيافة «الأنبا موسى»، أسقف الشباب، أمد الله فى عمره، والمستشارة الجليلة الدكتورة «جورجيت قلينى»، وكاتب هذه السطور بكتابة بيان يشرح فيه دوافع الانسحاب راجعه وأقره بنفسه، نقتطف جانبًا مما ورد فيه: «تابعت الكنائس المصرية باهتمام أعمال الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور المصرى، ودرست حصيلة مسودات الدستور.. ورصدت أثرها.. واستشعرت عدم ارتياح عام للاتجاهات التى سادت كتابة النصوص الدستورية المطروحة.. ورأت أن الدستور المزمع صدوره بصورته الحالية لا يحقق التوافق الوطنى المنشود، ولا يعبر عن هوية مصر التعددية الراسخة عبر الأجيال.. والتراث الدستورى المصرى الذى ناضل من أجله المصريون جميعًا، مسلمين ومسيحيين، كما ينتقص من الحقوق والحريات والمواطنة التى ناضل من أجلها المصريون عبر العصور.. وحفاظًا على الهوية المصرية، فالأمر دفعنا إلى الانسحاب من الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور، آملين أن نصل مع باقى الشعب المصرى ومؤسساته وقواه الوطنية إلى إنجاز دستورى يعبر عن طموحات المصريين بالحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية ومدنية الدولة المصرية...». ولا أنسى فكرته التى حرص فيها على تأمين الاعتراف الحكومى والرسمى باختيار البابا الجديد فى حال تعثر أو تأخر فى سياق سياسى مرتبك. وذلك عندما دعانى فى حفل الاختيار بصفتى الرسمية، حيث كنت أشغل موقعًا رسميًا رفيعًا آنذاك للتصديق على وثيقة إقرار الاختيار، فى سابقة هى الأولى من نوعها، والتى جرى التقليد أن يصدق عليها، بالأساس، أعضاء المجمع المقدس وأعضاء المجلس الملى. وما أن أدى مهامه بكل إخلاص وتفانٍ انسحب من المشهد العام بإرادته.. بالطبع هناك الكثير يقال عن هذه الفترة وما بعدها نأمل أن تتاح لنا فرصة الحديث عنها، كذلك آخر اتصال هاتفى بيننا.. وبعد وداع الأنبا باخوميوس، القائم مقام التاريخى الاستثنائى.
نقلا عن المصرى اليوم