الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
في زمنٍ تثقل فيه الكلمات وتُخفى الجراح، يخرج مسلسل لام شمسية بمثابة نداءٍ في البرّيّة، مثل نورٍ يتسلّل من بين الأبنية الصمّاء، يفضح ما اعتدنا أن ندفنه تحت عناوين "العيب" و"الستر" و"ما يصحّش". لا يتوسّل إعجابًا، ولا يستعرض بطولة، بل يهمس، ثمّ يصرخ، ثمّ يصمت… فيتركك أمام المرآة، وأمام الله.
الـ"لام الشمسية" التي تبدأ بها الحكاية ليست مجرّد أداةٍ لغوية، بل مفتاحٌ تأويليّ، إذ تذوب اللام في الحرف الذي يليها، كما تذوب صرخات الطفولة في ضجيج الكبار، وكما يُبتلع الصوت في قهر المجتمع. أمّا "النون النبويّة"، فهي ما يعيد تشكيل اللغة، ويستنهض الساكن، ويمنح الضحيّة منبرًا، ويحوّل الهمس إلى نبوّة.
ليس ما يعرضه "لام شمسيّة" مجرّد سردٍ دراميّ، بل جرحٌ مفتوح في ضميرٍ جماعيّ، وفعلٌ نبويّ بامتياز. لأنّ النبيّ، في جوهره، لا يتكلّم عن الغيب فقط، بل يفضح الواقع. لا يتنبّأ بالمستقبل بقدر ما يُدين الحاضر. والنبوّة هنا ليست ادّعاءً دينيًّا، بل شهادة. شهادة تُطلَق في وجه مجتمعٍ يجهل – أو بالأحرى يتغافل – عن مأساةٍ تُرتكب في الخفاء، حيث يُخدش الجسد الصغير، ويُخنق الصوت، وتُعلّق الكارثة في رقبة "القدر".
أوّلًا: البُعد السيكولوجيّ – الكارثة المستترة
الاعتداء على الأطفال، سواء كان جسديًّا أو جنسيًّا أو نفسيًّا، هو زلزالٌ داخليّ يضرب هويّة الطفل في لحظة التكوُّن. الطفل الذي لم تتشكّل بعد قدراته الدفاعيّة، والذي يثق بمن حوله بلا شروط، يواجه انكسارًا حادًّا في ثقته بالعالم، وفي جسده، وفي نفسه.
هذا الجرح لا يُشفى بسهولة، لأنّه لا يُعبَّر عنه. كثيرًا ما يتعلّم الطفل أن يخفي، أن يصمت، أن يشعر بالذنب بدلًا من الغضب، وبالخجل بدلًا من المطالبة بالحقّ. وهنا تتجسّد آليّات دفاعٍ معقّدة: الإنكار، الانشقاق، الكبت، التماهي مع المعتدي... وكلّها محاولات لحماية ما تبقّى من الذات.
المجتمع من حوله – وهو يُفترض أن يكون الحامي – يتحوّل إلى شريكٍ في الجريمة من خلال التغافل، أو الصمت، أو اللوم. وهذا ما يجعل الاعتداء على الأطفال جريمةً مركّبة: الجسد يُنتهك، والروح تُخذل، والمجتمع يخذل الضحية مرّتين.
ثانيًا: البُعد اللاهوتيّ – حيث يُكشَف الله في جراح الطفل
في قلب هذه الكارثة، يصرخ سؤالٌ لاهوتيّ رهيب: أين الله؟
مهما كانت الإجابةُ صعبةً، لكنّ السؤال لا يُجاب عليه بالتماهي مع المعتدي ("الله أراد هذا لسبب لا نعرفه")، ولا بالصمت ("لا يجوز الشكوى من إرادة الله")، بل بالرجوع إلى جوهر الإيمان:
الإله الحقيقيّ ليس مع المعتدي، بل مع الضحيّة.
ليس في الصمت عن الظلم، بل في الصرخة التي لا تُحتمل.
الله، في المسيح، عُلِّق على خشبة — مثل طفلٍ مصلوب، بلا حماية، في جسدٍ منكشف، في صرخة: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟"
هذا الصراخ هو صوت الأطفال المُعتَدَى عليهم. وهذا هو المكان الذي فيه يُعاد اكتشاف الإيمان: لا في التبرير، بل في المواجهة.
اللاهوت النبويّ يرى الله في الجرح، لا في السكّين.
الإفخارستيّا، سرّ الحضور الإلهيّ، لا تكتمل ما لم يُرفَع فيها كلّ طفلٍ مكسور، ويُعلَن أنّ لا خلاص من دون عدالة. أنّ لا قيامة من دون كشف. أنّ لا مشاركة في جسد المسيح من دون الإصغاء لصراخ الأطفال الذين يُسحق جسدهم في سراديب البيوت والصمت والسلطة.
خاتمة: النبوّة واجب، لا امتياز
في كلّ مشهدٍ من المسلسل، نلمح دعوةً إلى التبصّر، ومحاكمةً للضمير، ودعاءً مكتومًا بأن نعود أطفالًا، لا بمعنى البراءة فحسب، بل بمعنى الجرأة على الصراخ، والقدرة على الحكي، والتحرّر من ثقافة الصمت.
"لام شمسية" يبدأ باسم، لكنّه ينتهي بصوت. والنبوّة هنا ليست ملك نبيٍّ يُوحى إليه، بل مسؤوليّة كلّ من رأى، وأدرك، ولم يعد يستطيع السكوت.
ليست "لام شمسية" عنوان مسلسل، بل علامةٌ في الطريق: طريقٌ نُزع فيه قناعُ الطمأنينة، وانكشفتْ فيه وجوه السكوت القاتل، ليُقال أخيرًا ما كان يُحرَّم قوله. لتُستعاد النبوّة، لا بوصفها امتيازًا، لكن واجبًا. واجب أن نشهد. أن نقف إلى جانب المكسور. أن نقول: كفى.
في هذا، تتجلّى النون النبويّة: نحن نرفض الصمت، نرفض التواطؤ، نعلن أنّ كلّ طفل مقدّس، وأن كلّ جريمة تُخفى، تسهم في قتل المسيح من جديد.
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ