القمص يوحنا نصيف
كنيستنا المقدّسة تُسَمِّي عيد البشارة بِكرَ الأعياد، إذ فيه بداية لحظة التجسُّد الإلهي، باتّحاد الطبيعة الإلهيّة مع الطبيعة البشريّة في بطن السيّدة العذراء مريم والدة الإله. وهذا الاتحاد الذي تمّ في شخص ربّنا يسوع المسيح كلمة الله الأزلي، باتّخاذه جسدًا مُماثِلا لنا، كان هو طريقنا للاتّحاد بالله، والذي بدونه لا تكون هناك حياة ولا خلاص للبشريّة.
اهتمّ القدّيس أثناسيوس الرسولي والقدّيس كيرلّس الكبير في تعاليمها، أثناء تأكيدهما لألوهيّة المسيح الكاملة، أن يتعرّضا لموضوع اتّحادنا بالله، ويشرحا أهمّيته وضروريّته لخلاصنا.. فأكّدا أنّ الابن لو لم يكُن إلهًا حقيقيًّا ما كان قادرًا أن يُصالِحنا مع الآب، ولا يؤلِّهنا (أي يجعلنا نتّحد بالله)، ولا يستطيع بالتالي أن يُدخِلنا إلى ملكوته.
يسعدني في هذا المقال أن أقتطِف بعض الفقرات، من أحاديثهما الذهبيّة، حول موضوع الاتحاد بالله، من خلال التجسُّد الإلهي، ثمّ شركة التناول من جسد المسيح ودمه:
+ "إنّ الكلمة لا ينتمي إلى المخلوقات، بل بالحري هو نفسه خالقهم. ولذلك فقد لبس الجسد البشري المخلوق، لكي بعد أن يُجَدِّده كخالق، فإنّه يُؤَلِّه هذا الجسد في ذاته هو نفسه، وهكذا يُدخِلنا جميعًا إلى ملكوت السموات على مثال صورته.
لأنّه ما كان للإنسان أن يتأَلَّه لو أنّه اتّحَدَ بمخلوق، أو لو أنّ الابنَ لم يكُن إلَهًا حقيقيًّا.
وما كان للإنسان أن يقف في حضرة الآب، لو لم يكُن الذي لبس الجسد هو بالطبيعة كلمته الحقيقيّ.
وكما أنّه لو لم يكن الجسد الذي لبسه الكلمةُ جسدًا بشريًّا، لما كُنّا قد تَحَرَّرنا مِن الخطيئة واللعنة، حيث إنّه في هذه الحالة لا يكون هناك شيءٌ مشتركٌ بيننا، هكذا لم يَكُن للإنسان أن يُؤَلَّه لو لم يكن الكلمة هو ابن طبيعي حقيقي وذاتي مِن الآب.
لهذا إذن صار الاتّحاد هكذا: أن يتّحد ما هو بَشَريٌّ بالطبيعة [الإنسان] بهذا الذي له طبيعة الألوهَة [الكلمة المتجسِّد]، و[بالتالي] يَصير خلاصُ الإنسانِ وتأليهُهُ مؤكَّدًا".
[ق. أثناسيوس – ضدّ الأريوسيّين – المقالة الثانية – فقرة 70].
+ "مِن حيث كونه كلمةً حَقًّا فلا يوجد هناك مَنْ يماثِلونه حتّى يمكن أن يتّحدوا معه، وذلك لأنّه المولود الوحيد [من الله].
ولكنّه بصيرورَتِهِ إنسانًا فقد صار له مماثِلون، وهم الذين ارتَدَى جسدَهم المُمَاثِل لجسده. وتبعًا لذلك فإنّه «تأسَّسَ» [أي صار أساسًا] بحسب بشرِيّتِهِ لكي يمكننا نحن أيضًا أن نُبنَى فوقه كحجارة كريمة، ونَصير هيكلاً للروح القدس الساكن فينا.
وكما إنّه هو أساسٌ حَقًّا، فنكون نحن الحجارة التي تُبنَى عليه.
وأيضًا يكون هو الكَرمَة ونصير نحن أغصانه، ليس بحسب جوهر اللاهوت -لأنّ هذا مستحيل حَقًّا- بل بحسب بشريّته، لأنّ الأغصان يَلزَم أن تكون مُشابِهة للكرمة، حيث إنّنا نحن مشابِهون له بحسب الجسد."
[ق. أثناسيوس – ضدّ الأريوسيّين – المقالة الثانية – فقرة 74].
+ لقد كان من المستحيل بالنسبة لنا، نحن الذين سقطنا عن طريق التعدّي الأصلي، أن نُستَعَاد إلى مجدنا القديم، إلاّ بحصولنا على شركة لا يُنطَق بها، ووِحدة مع الله.
+ ولا يستطيع إنسان أن يبلغ إلى الاتحاد مع الله، إلاّ بالشركة مع الروح القدس، الذي يَغرِس فينا التقديس الخاصّ بأقنومه الذاتي، ويدمِج الطبيعة التي خضعت للفساد في حياته الخاصّة؛ وهكذا يُرجَع إلى الله وإلى مثاله، ذلك الإنسان الذي حُرِمَ من المجد الممنوح من الله.
+ فالابن هو حقًّا صورة الآب، وروح الله هو الشَّبَه الطبيعي للابن، ولهذا السبب، إذ هو يَدمِج من جديد نفوس البشر في ذاته، فهو يَطبَعهم بشبه الله، ويختمهم بصورة العليّ.
+ لكي نرتبط نحن أنفسنا معًا، ونندمج في الوحدة مع الله، ومع بعضنا البعض، رغم وجود اختلاف بيننا، إذ لكلّ واحد مِنّا كيانًا منفردًا بنفسه وجسده، فإنّ الابن الوحيد، بحكمته الذّاتيّة ومشورة الآب، قد ابتكر طريقةً لتتمّ بها هذه الوحدة. فإنّه بواسطة جسد واحد، الذي هو جسده، يبارِك من خلال سرّ الإفخارستيا أولئك الذين يؤمنون به، ويجعلنا مِنَ الجسد نفسه، معه ومع بعضنا البعض.
+ فمَن يستطيع أن يقسِم أو يفصِل أولئك الذين ارتبطوا معًا بواسطة جسده المقدّس؟ فإنّ كُنّا نشترك جميعًا في الخبز الواحد (1كو12: 27)، فإنّنا كلّنا نصير جسدًا واحدًا، لأنّ المسيح لا يمكن أن ينقسم، لذلك أيضًا فالكنيسة صارت جسد المسيح.
+ ولكوننا كلّنا قد اتّحدنا بالمسيح بواسطة جسده المقدّس، إذ قد قبلنا في أجسادنا ذاك الذي هو واحد ولا يقبل الانقسام، فإنّ أعضاءنا تكون مَدِينةً لخدمته هو، لا خدمة أنفسنا.
+ والذين يشتركون في جسده المقدّس، يحصلون من هذا على وِحدة طبيعيّة حقيقيّة مع المسيح.. فالمسيح هو رباط الاتحاد.
+ إنّنا نندمج معًا، بعضنا مع بعض ومع الله. لأنّه إن كُنّا ونحن الكثيرين، يسكن المسيح الواحد في كلٍّ مِنّا، هكذا فإنّ الروح وهو واحد وغير منقسم، يجمع معًا أرواح الأفراد المنفصلة الخاصّة بكلّ واحد مِنّا.. إلى الوحدة لكي يجعلنا جميعًا، نصير فيه وبواسطته واحدًا.
+ فكما أنّ قوّة جسده المقدّس تجعل أولئك الذين يوجَد فيهم أن يكونوا من نفس الجسد، هكذا بالمِثل أيضًا، فإنّ روح الله غير المنقسم الذي يسكن في الجميع، إذ هو واحد، فهو يضمّ الجميع معًا إلى الوحدة الروحيّة.
+ إنّنا نتغيّر إلى طبيعة أخرى، ويُمكِن أن يُقال أنّنا لا نعود بعد مجرّد بشر، بل أيضًا أبناء الله، وبشر سماويون، من خلال صيرورتنا شركاء الطبيعة الإلهيّة.
[تفسير إنجيل يوحنّا للقدّيس كيرلّس السكندري (ص17: 21)].
كلّ عام ونحن جميعًا في ملء النعمة والفرح بالمسيح رأس الكنيسة،،
القمص يوحنا نصيف
عيد البشارة 2025م