هاني لبيب
هل استطاعت الديمقراطية أن تكون مرجعية حقيقية للحياة السياسية، أم ظهر لنا الآن أنها مجرد وهم سياسى تم تصديره لنا كحقيقة مطلقة؟ قطعًا، ما يحدث الآن.. يسقط كافة الأوهام عن قداسة الديمقراطية المفترضة، تلك الديمقراطية التى حقًا لم تكن يومًا غاية بقدر ما كانت وسيلة.. تم توظيفها لتكون أداة الانهيار والتخريب الداخلى للدول تحت مسميات الربيع العربى الأسود والفوضى الخلاقة والحركات الاحتجاجية تحت أكثر الشعارات تضليلًا وفسادًا وهو «حكم الشعب».. حتى لو لم يكن يعرف الديمقراطية ولم يختبرها ولا يملك مرجعية ثقافية ومعرفية واقتصادية لها.. فتفشل الفكرة فى بيئة غير مؤهلة لها من الأصل.
صدروا لنا الديمقراطية كمشروع سياسى سابق التجهيز.. دون تأسيس بنية فكرية سياسية وقانونية حقيقية لتأكيد الدولة المدنية من خلال المؤسسات، ووسائل الإعلام، والقضاء والتعليم بشكل يعزز قيم التسامح والحوار وقبول الاختلاف والتعددية. وهو ما يصل بنا إلى تحدى الاختبار الحقيقى لكل ما سبق فى الانتخابات التى تتحول لمجرد إجراء شكلى، وتتحول صناديق الاقتراع إلى أداة لإنتاج الاستبداد والفاشية الدينية بمرجعية شعبية مثلما حدث فى وصول تيار الإسلام السياسى للحكم فى مصر من خلال ما قامت به جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية. ولذا أتفق مع ما كتبه د. عصام عبدالفتاح تحت عنوان «الديمقراطية الإله الذى فشل» بجريدة «المصرى اليوم» أمس الخميس، لما تضمنه من مناقشة ما أصاب الديمقراطية وما أصابته. وليس ببعيد عما سبق، ما تقوم به إسرائيل الآن من خلال الوهم الذى صدرته للعالم باعتبارها
واحة الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة. والحقيقة أنها تطبقها بشكل مجتزأ داخليًا فقط، بينما تمارس كل ما هو على النقيض منها ضد الشعب الفلسطينى. ولا نهمل هنا التضامن الأمريكى والانحياز الفج مع ما تقوم به إسرائيل بطريقة تضرب بها عرض الحائط بكل ما تبنته وفرضته على العالم من معايير حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية. وهو ما يؤكد الآن أن ما قامت به.. كان مجرد توظيف للقوة الناعمة.. دون إيمان حقيقى بالقيمة الإنسانية لها. يختبر العالم الآن ما تعنيه الديمقراطية فى ظل الصمت الغربى الرهيب تجاه المجازر والانتهاكات والإبادة الجماعية التى يتعرص لها الشعب الفلسطينى فى غزة، وفى مقابل دعم غير مشروط لإسرائيل. هذا المشهد.. يكشف مدى المأزق القيمى والأخلاقى والإنسانى للديمقراطية الغربية التى ظهرت على حقيقتها بانحيازها لقاعدة (حين تتعارض القيم مع المصالح.. تسقط القيم).
فى تقديرى، أن السؤال الأساسى الآن هو: هل ما زالت الديمقراطية مشروعًا أخلاقيًا وإنسانيًا أم تحوّلت إلى وسيلة براجماتية لتبرير الهيمنة وإدارة العالم حسب مزاج القوة الكبرى؟!
التناقض فيما سبق، يفقد الديمقراطية مصداقيتها كقيمة سياسية. كيف يمكن إقناع شعوب يتم إبادتها بأهمية الديمقراطية؟ المسألة ليست مجرد ازدواجية معايير، بل هى انهيار للبنية الأخلاقية لمنظومة.. خدعتنا لسنوات طويلة تحت شعار أنها راعية حقوق الإنسان وحمايته وكرامته.
نحن أمام أزمة حقيقية فى الإيمان بمفهوم الديمقراطية التى اقتصروا فى تصديرها لنا على إجراء الانتخابات وتداول سلطة، وتجاهلوا تمامًا غيابها كمشروع ثقافى وفكرى مؤسس قبل أن تكون مشروعًا سياسيًا تنفيذيًا. ولقد ثبت أن الديمقراطية الحقيقية ليست هى صندوق الاقتراع، بل هى التى تبدأ فى المنزل والمدرسة والجامعة، والإعلام، والمؤسسات الدينية، والمجتمع المدنى.. فهى نظام تفكير ونمط حياة، قبل أن تكون نظام حكم.
أزمة نخبتنا السياسية والثقافية، أنها تعاملت مع الديمقراطية كإجراءات وليس كقيمة، وخلطت فى التعريفات بين مفهوم الدولة ومفهوم الدولة الديمقراطية.. هذا الخلط الذى تسبب فى حالة الفوضى والاستقطاب والتشكيك والتخوين الذى يؤدى إلى صعود تيارات فاشية متطرفة لا علاقة لها بالديمقراطية إلى الحكم باستخدام الأساليب والأدوات الديمقراطية.
أعتقد أن أكبر ضحايا الاختبار السابق للديمقراطية هى الأحزاب السياسية.. التى فقدت بوصلتها ودورها السياسى التاريخى. وذلك بعد أن تحولت من التعبير عن إرادة المواطنين والحفاظ على مكتسباتهم ومصالحهم إلى أشكال شبه بيروقراطية.. تدار من خلال تكتلات مجموعات المصالح بأشكالها المتنوعة. وهو ما جعلها تفقد زخمها الشعبى وقدرتها على تقديم خطاب مقنع. بعد أن توقفت عن إنتاج الأفكار، وفقدت قدرتها على اختيار أعضائها والتعبير عن تحدياتهم الحقيقية. وأصبحت تلك الأحزاب قائمة هيكليًا دون حضور شعبيًا على أرض الواقع.
نقطة ومن أول السطر..
أؤمن بأنه لا يمكن وجود ديمقراطية دون تحرير العقل من المقدسات السياسية والفولكلورية الاجتماعية. وعلينا إعادة النظر فى البنية الثقافية للديمقراطية، وتجاوز الفهم الإجرائى إلى الفهم القيمى للديمقراطية.. باعتبارها تربية فكرية، ونظام حياة، وعقد اجتماعى يؤمن بأن الاختلاف لا يعنى الخيانة، وأن المعارضة الوطنية الحقيقية هى شريك فى بناء الوطن.. وليست خصمًا يجب سحقه والقضاء عليه.
نقلا عن المصرى اليوم