القمص يوحنا نصيف
عندما اقترب المسيح من أورشليم بَكَى عليها، وتنبَّأ عن خرابها الكامل، لأنّها لم تَعلَم ما هو لسلامها، ولم تَعرِف زمان افتقادها (لو19: 41-44). ويُقَدِّمَ القدّيس كيرلّس الكبير تعليقات جميلة على هذه الحادثة، فيقول:
+ أدان إرميا النبيّ الطوباوي بصوتٍ عالٍ، جهل اليهود وكبرياءهم بآنٍ واحد، مُوَبِّخًا إيّاهم بهذه الكلمات: "كيف تقولون نحن حكماء وكلمة الربّ معنا؟ باطلٌ هو قَلمِ الكتَبَةِ الكاذب. خَزِيَ الحكماء وارتاعوا وأُخِذوا. أيّة حكمة وها قد رَفَضُوا كلمة الربّ؟" (إر8: 8-9 سبعينيّة). لأنّهم ليسوا حكماء، ولا على دراية بالأسفار المقدّسة.
+ ومع أنّ الكتبة والفرّيسيّين يَنسِبون لأنفسِهِم زورًا سُمعةً، أنّهم متعلّمون في الناموس، فإنّهم رَفَضوا كلمة الله، لأنّه عندما صار الابن الوحيد إنسانًا، فإنّهم لم يَقبَلوه.. ولأنّهم قد رفضوا كلمة الله بسلوكهم الشرّير، فهُم أنفسهم قد رُفِضوا، وتمّت إدانتهم بالقرار الإلهي العادل؛ لأنّه يقول بفم إرميا: "فِضّة مرفوضة يُدعَون، لأنّ الربّ رَفَضَهم" (إر6: 30).
+ ثمار انحرافهم كانت واضحة، في الكوارث التي حلّت بهم، لأنّهم عانوا من كلّ شقاء، كجزاء على قتلهم الربّ. أمّا (بخصوص) سقوطهم في هذه البليّة [لعلّه يقصد خراب أورشليم سنة 70م]، فهذا لم يكُن أمرًا يتوافق مع مشيئة الله الصالحة، لأنّه كان يريد لهم بالأحرى أن يَبلُغوا السعادة، عن طريق الإيمان والطاعة. أمّا هُم فكانوا غير مطيعين ومتغطرسين.
+ المسيح أشفق عليهم، لأنّه "يريد أنّ جميع الناس يخلُصون، وإلى معرفة الحقِّ يُقبِلون" (1تي2: 4)، إذ يقول (النَّصّ) أيضًا أنّه "نظر إلى المدينة وبكى عليها"، لكيما نَعرِف بهذا أنّه يَحزَن -إن جاز لنا أن نتكلّم هكذا عن الله الذي يعلو على الكلّ- ولكنّنا ما كُنّا نستطيع أن نَعرِف أنّه أشفق رغم شرّهم، لو لم يَكُن قد أظهَرَ بفِعلٍ بشريٍّ ذلك الحُزن الذي لا يمكننا أن نراه، لأنّ الدَّمعة التي تسقُط من العين هي تعبير عن الحُزن، أو بالأحرى هي إظهار واضح له. وهكذا بكى أيضًا على لعازر، حتّى يُمكِننا مرّة أخرى أن نفهم أنّه حزن على طبيعة الإنسان التي سقطت تحت سطوة الموت، لأنّه "خلق كلّ الأشياء لعدم الفساد (للخلود)، ولكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حكمة2: 23 سبعينيّة).
+ نقول أنّه بكى على أورشليم، لأنّه أراد أن يراها في سعادة، بقبولها الإيمان به، ونوال السلام مع الله؛ فإنّه إلى هذا (السلام) دعاهم إشعياء النبيّ أيضًا قائلاً: "لنصنع سلامًا معه، لنَصنَع نحن القادِمون سلامًا معه" (إش27: 5 سبعينيّة). أمّا عن أنّه بالإيمان نصنع سلامًا مع الله، فهذا ما يُعلِّمنا إيّاه الحكيم بولس، حيث يكتب: "إذ قد تبرّرنا بالإيمان، لنا سلام مع الله، بربّنا يسوع المسيح" (رو5: 1).
+ أمّا هُم، فكما قُلتُ، أسرَعوا بعنفٍ جامح إلى الغطرسة والازدراء، وأصَرُّوا على احتقار خلاص المسيح؛ لذلك فالمسيح يلومهم عل نفس هذا الأمر قائلاً: "لو عَلِمتِ أنتِ أيضًا ما هو لسلامك"، أي (لم تعرفي) تلك الأشياء المفيدة والضروريّة لكِ لتصنعي سلامًا مع الله، وهذه الأشياء هي: الإيمان، الطاعة، التخلِّي عن الظلال، التوقُّف عن العبادة الناموسيّة؛ وبدلاً عن ذلك تفضيل العبادة التي بالرّوح والحقّ، تلك العبادة التي بالمسيح تكون رائحتها طيّبة وجديرة بالإعجاب، وثمينة أمام الله، لأنّه يقول: "الله روح، والذين يسجدون له فبالرّوح والحقّ ينبغي أن يسجدوا" (يو4: 24).
+ المُخَلِّص.. أراد مرّات كثيرة أن يَسبغ عليهم رحمته، ولكنّهم رفضوها، ولذلك فقد أُدينوا بحُكم إلهي مُقَدَّس، واستُبعِدوا عن أن يكونوا أعضاء في بيته الروحي..
+ المدينة التي كانت سابِقًا مُقَدَّسة وشهيرة، أي أورشليم، تسقُط في ضيقات الحرب. هذا يمكن أن نراه من التاريخ.. كان هذا هو أجر الافتخار الباطل لليهود، وعقوبة عصيانهم، والعذاب الذي هو العقاب العادل لكبريائهم؛ أمّا نحن فقد رَبحنا رجاء القدّيسين، ونحن في سعادة كاملة، لأنّنا أكرَمنا المسيح بالإيمان.
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 131) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف