بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر


 يعرف الجبل المطل على مدينة القدس من الجنوب باسم جبل المكبر أو صهيون، و جبل صهيون هو أحد الجبال المكونة لسلسلة جبال أورشليم "وكان اسم صهيون في الأصل يطلق على قدس اليبوسيين التي احتلها داود وجعلها عاصمة مملكته فأصبح اسمها "مدينة داود. وإليها أتى بالتابوت المقدس، ومن هذا الوقت صار الجبل مقدساً (2صم 6: 10– 12 ) ثم نقل سليمان التابوت إلى الهيكل الذى أقامه على جبل المريا (1 ملوك 8: 1 و2أخ 3: 1، 5 : 2) من هذين الموضعين الأخرين يتبين لنا أن صهيون مرتفع والمريا مرتفع آخر. بعد أن بُنى الهيكل فى جبل المريا ونُقل التابوت إليه، إتسع نطاق صهيون حتى شملت الهيكل (إش 8 : 18، 18: 7، 24: 23 ). وهذا يُفسر لنا لماذا ذُكرت صهيون العديد من المرات فى العهد القديم. كما نلاحظ كثيراً ما أطلق اسم صهيون على أورشليم كلها (2 مل 19: 21 ومز 48، 69، 133 وإش 1: 8، 3: 16، 4: 3، 10: 24، 52: 1) أمّا الاسم صهيون فأخذ يكتسب على مر العصور معنى رمزيا في الروحانية اليهودية. فكان مسبيّو بابل يضعون كل آمالهم في إعادة بناء صهيون. ولما لم تتحقق آمالهم بعد عودتهم من السبي اكتسب الاسم معنى رمزيا وهو شعب الله.

بدأت المسيحية بالانتشار في القدس وكان مركزها الأول في علية صهيون وكانت لديها القناعة بأنها الآن شعب الله الجديد فسمّوا أول كنيسة باسم صهيون المقدسة. وهكذا تحول اسم صهيون من مدينة داود في سلوان إلى المنطقة التي تقوم عليها العلية.

صهيون من أهم الأماكن المقدسة المسيحية. ففي العلية تأسست الإفخارستيا وفيها ظهر يسوع لتلاميذه بعد القيامة وفيها حلّ الروح القدس على التلاميذ في العنصرة فابتدأت حياة الكنيسة. وفي صهيون أيضا نجد بيت قيافا وكنيسة صياح الديك وكنيسة نياحة العذراء. و فيها قبر الملك داود او "النبى داود" هذا القبر مقدس لدي المسلمين والمسيحيين واليهود، والمكان الذى توفيت فيه مريم العذراء بحسب التقاليد المسيحية . أقام الصليبيون كنيسة على قمة الجبل في سنة 1100 بعد الميلاد وسموها كنيسة القديسة مريم. دمرت الكنيسة عام 1219م. وحول الأتراك المكان إلى مسجد في القرن السادس عشر، وبقي الأمر كذلك حتى سنة 1889م عندما منحه سلاطين الأتراك للقيصر الألماني ولهلم الثالث الذي اعطاه بدوره للآباء البندكتيين الذين أعادوا بناء الكنيسة عام 1910م تعرف الكنيسة اليوم بكنيسة الصعود "الدورمشن"  وهي البناء الأكثر بروزاً على جبل صهيون. سقفها مزين برسم جميل من الفسيفساء لمريم العذراء والطفل يسوع، وفي القبو تمثال حجري لمريم العذراء وهي نائمة على فراس الموت.

علية صهيون (بيت مارمرقس الرسول)
علية صهيون

      وفي أول يوم من الفطير، وفيه يذبحُ حمل الفصح، قال له تلاميذه: " إلى أين تريد أن نمضي فنعد لك لتأكل الفصح؟ " فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: " إذهبا إلى المدينة، فيلقاكما رجل يحمل جرّة ماءٍ فاتبعاه، وحيثما دخل فقولا لرب البيت: يقول المعلّم: أين غرفتي التي آكل فيها الفصح مع تلاميذي؟ فيريكما عليّة كبيرة مفروشة مهيّأة، فأعدّاه لنا هناك". فذهب التلميذان وأتيا المدينة، فوجدا كما قال لهما وأعدّا الفصح. مرقص 14: 12– 16

        التقليد المسيحي الذي يشهد على صحة المكان قديم جدا. فيروي القديس إبيفانيو وهو فلسطيني مات عام 403 أن الإمبراطور أدريانو زار فلسطين ووجد القدس كما تركها تيطس بعد الدمار (70 ب.م.) فيما عدا بضعة بيوت " من بينها الكنيسة الصغيرة التي قامت فوق الموضع حيث كان الرسل ينتظرون العنصرة ". ويشير للموضع أيضا القديس كيرلس في حديثه عن "كنيسة الرسل". ووصفت الحاجة إيجيريا بعد بضعة أعوام الاحتفالات الدينية التي كانت تجري في " الكنيسة التي على جبل صهيون " في ذكرى ظهورات الرب والعنصرة. وأن كل الدلائل تشير إلى أنها كانت عُلّية فى بيت مارمرقس الرسول كاروز الديار المصرية. كانت قد أصبحت كنيسة للمسيحيين الذين من أصل يهودى حتى عام 153 ميلادية، ويبدو أن هذه الكنيسة قد تهدمت بعد ذلك.

يبدو أنه تم في هذه الفترة ترميم الكنيسة من قبل يوحنا الثاني مطران القدس. واتخذت منذئذ اسم " صهيون المقدسة ". وكانوا يكرّمون في الموضع بضع رفات مقدسة ويحتفلون بذكرى القديس يعقوب والملك داود الذي يكرمون قبره تحت العلية.

دمـرت جيوش كسرى الكنيسة وأعاد مديستو الناسك بناءها لكن المسلمين دمروها مرة أخرى. لما جاء الصليبيون لم يجدوا سوى الكنيسة العليا فبنوا بناء ضخما شمل أيضا موضع " نياحة العذراء ". وبعد سقوط المملكة الصليبية حافظ المسيحيون على العلية ولكن الكنيسة أخذت تتهدم.

مع قدوم الآباء الفرنسيسكان قاموا أولا بترميم علية صهيون وبنوا بعد بضعة أعوام ديراً صغيراً ما زال قائما حتى اليوم. بعد قرن من الزمان قام المسلمون بتحريض من اليهود بالاستيلاء على القاعات التي تحت علية صهيون مغتصبين " قبر النبي داود". وصدرت وثيقة عن حاكم القسطنطينية عام 1524م حرمت الفرنسيسكان من " الغرفة العليا " وأجبرتهم الاضطهادات والمضايقات على هجر الدير عام 1551م. فتحولت العلية إلى مسجد ومنع المسيحيون من ارتيادها منعا باتا. وفي القرن الماضى سمح للمسيحيين بزيارة المكان ولكن بدون الاحتفال بالذبيحة الإلهية. وبني فيه محراب وأصبح المكان مسجدا رسميا .. وقد كشفت الآثار عن كنيسة لليهود المتنصرين ونعلم من شهادة أبيفانيو أن كنيسة مسيحية كانت في المكان وعليه وقد عرفت دائرة الآثار الإسرائيلية هذا الأمر ولكنها تحفظت عليه لأغراض خاصة. ومنذ سنة 1949م انتقل المكان تحت مسئولية وإشراف السلطات الإسرائيلية.

تتطابق الحجرة المؤدية للقبر المزعوم مع الكنيسة القديمة المكرسة لذكرى غسل الأرجل.

للبناء الحالى طابقين، وقد بناه الآباء الفرنسيسكان فى القرن الرابع عشر: قاعدة الطابق الأول هى قاعة العشاء الأخير، والقاعة الشرقية منها لذكرى حلول الروح القدس فى يوم العنصرة. أما القاعة السفلية هى قاعة غسيل الأرجل وبجوار قبر النبى داود. وبجوار القبر نشاهد كنيسة الآباء الفرنسيسكان الجديدة (1836م) الملتصقة بالدير تعويضاً عن علية العشاء الأخير.

أهمية العلية مرتبطة بثلاث ذكريات إنجيلية هامة وهي تأسيس الإفخارستيا وظهور المسيح القائم من بين الأموات وحلول الروح القدس. وفي هذا المكان اختارت الكنيسة الرسولية متياس وفيه كرسي الرسل والجمع المسكوني الأول. كما أن التقليد المتوارث بالإضافة إلى الاكتشافات الأثرية، تثبت أن علّية تأسيس سر الشكر.

نياحة القديسة مريم:
حال خروجنا من علية صهيون، نسير إلى اليمين. بعد حوالي مائة متر نجد إِلى اليمين بوابة من الحديد عليها صليب حراسة الأراضي المقدسة. تدخلنا البوابة إلى حديقة واسعة وتحتل الكنيسة الحالية جزءاً من الكنيسة التي بنيت في القرن الرابع. وعندما نخرج من الكنيسة ونتجه إلى اليسار في طريق علية صهيون، ندخل يميناً في أول طريق تواجهنا فنبلغ كنيسة " نياحة العذراء".

يخبرنا الإنجيل المقدس، أن السيد المسيح عهد بأمه العذراء إلى يوحنا الحبيب، وقد توارث الابناء عن الآباء تقليداً يفيد أن العذراء ظلت فى بيت يوحنا الحبيب حتى يوم نياحتها، وفوق أطلال هذا البيت شيدت الكنيسة الحالية والتى تُعرف بكنيسة النياحة.

       بنى الآباء الفرنسيسكان كنيسة فى هذا المكان فى القرن الحادى عشر، وهُدمت سنة 1490م. ثم سمحت تركيا لقيصر ألمانيا باقتناء هذا المكان سنة 1858م. وعلى الأثر شيدت فيه كنيسة بأسلوب الفن الرومانى الحديث والتى أتخذت شكل حصن من القرون الوسطى.

الكنيسة طابقان : الكنيسة العليا مزينة بالفسيفساء والبرونز، أما الكنيسة السفلى فنشاهد فيها تمثالاً للعذراء مريم من الخشب والعاج، فوقه قبة مزينة بمناظر من الموازييك تمثل: حواء – راعوث – نُعمى – أستير. وفى حرب سنة 1948م وسنة 1967م تضررت الكنيسة كثيراً ولكن أجريت لها الإصلاحات اللازمة، وهى حالياً ملك الرهبان البندكت الألمان، وقد تم تدشينها سنة 1910م.

كنيسة صياح الديك ( بيت قيافا رئيس الكهنة )
أطلق الاسم عليها إشارة إلى حادثة نكران بطرس للمسيح. (مرقص 14 : 53 ، 54، 66 ، 72) وذهبوا بيسوع إلى عظيم الكهنة، فاجتمع عظماء الكهنة والشيوخ والكتبة كلهم، وتبعه بطرس عن بُعد إِلى دار عظيم الكهنة فدخلها. وجلس مع الخدم يستدفئ. وبينما بطرس في الأسفل، في ساحة الدار، جاءت جارية من جواري عظيم الكهنة، فرأت بطرس يستدفئ فتفرّست فيه وقالت: " أنت أيضا كنت مع الناصري، مع يسوع " فأنكر قال: "لا أدري ولا أفهم ما تقولين". ومضى إلى خارج الدار نحو الدهليز، فرأته الجارية فأخذت تقول ثانيا للحاضرين "هذا منهم!" فأنكر ثانيا. وبعد قليل، قال الحاضرون أيضا لبطرس: " حقا أنت منهم لأنك جليلي". فأخذ يلعن ويحلف: " إني لا أعرف هذا الرجل الذى تعنونه". فصاح الديك عندئذ مرة ثانية، فتذكر بطرس الكلمة التي قالها له يسوع: " قبل أن يصيح الديك مرتين، تنكرني ثلاث مرّات". فخرج على عجل وأخذ يبكي. (مرقص 14 : 53 – 54، 66 – 72)

يفترض أنّ الكنيسة مبنية بالقرب من موقع بيت قيافا حيث اقتيد يسوع ليلة القبض عليه. وقد قام الآباء الأسومسيونيست الذين يمتلكون المكان بالكشف عن أجزاء من الأحياء اليهودية والرومانية الواقعة في ممتلكاتهم. وفي أسفل الكنيسة يمكن زيارة مجموعة مغاور كانت جزءا من الأحياء السكنية أيام المسيح. لإحدى هذه المغارات صفات السجن ويعتقد البعض أنّ يسوع قد وُضع فيها بعد أن حكم عليه حنان وقيافا في انتظار بزوغ فجر اليوم التالى.

 الكنيسة الحالية بُنيت فى سنة 1931م، فوق أطلال كنيسة بيزنطية شيدت فى القرن الخامس الميلادى، ويمكن حتى الآن مشاهدة بقايا قصر قيافا فى أسفل الكنيسة وحولها.

قيافا رئيس الكهنة:
المتتبع لأحداث أسبوع الآلام يجد أن حنان رئيس كهنة وزعيماً دينياً للحزب الكهنوتى فى أورشليم فى أيام السيد المسيح. وكان لحنان نفوذاً واسعاً، وقد عينه رئيساً للكهنة "كيرينيوس" حاكم سوريا فى السنة السابعة الميلادية، فقد كان التعيين فى هذا المركز والطرد منه (فى ذلك الوقت) يتوقفان على أهواء الولاة الرومانيين. وقد خلع " فاليرويوس جراتوس " حنان فى السنة الخامسة عشر بعد الميلاد، ولكن رغم خلعه من رئاسة الكهنوت رسمياً، ظل يمارس نفوذاً كبيراً، كأعظم رأس فى الكهنوت. وتبدو حنكته فى أنه استطاع أن يولى خمسة من ابنائه تباعاً، وصهره قيافا، رئاسة الكهنوت  ومما يدل أيضاً على إستمرار نفوذه القوى.

لقد كان قيافا – كرئيس الكهنة الرسمى – رئيساً للسنهدريم، الذى حكم على الرب يسوع، لكن حنان العجوز الماكر هو الذى كان يوجه الأحداث. وقد قام حنان باستجواب " يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه " (يو 18 : 19)، لعل ذلك يرجع إلى أنه كان استجواباً مبدئياً – غير رسمى – وله طبيعة خاصة، إذ كان لجمع المعلومات للمحاكمة الرسمية. وإذ فشل حنان فى الحصول من الرب يسوع على معلومات لإدانته. " أرسله موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة " ( يوحنا 18 : 24). وظل قيافا يشغل مركز " رئيس كهنة " إلى أن خلعه " فيتليوس Vitellius " والى سورية.

وقيافا هذا ذُكر عنه فى إنجيل يوحنا: " فجمع رؤساء الكهنة والفريسيون مجمعاً وقالوا : ماذا نصنع؟ فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة. إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به. فقال لهم واحد منهم، وهو قيافاً، كان رئيساً للكهنة فى تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئاً. ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها" (يوحنا 11 : 45 – 52)، " فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه " (يو 11 : 53) وحتى الآن توجد تلّة تحمل اسم " جبل المشورة السيئة "، وهى تقع فى نهاية "وادى هنّوم"، لأن هذه التلّة لا تبعد كثيراً عن بيت قيافا الذى نطق بهذه المشورة السيئة (الآن يُقييم على هذه التلّة ممثلون عن هيئة الأمم المتحدة).

كانت صهيون أيام المسيح الجزء المأهول بالسكان من المدينة. وفي الحقبة البيزنطية بنيت في المكان كنيسة مكرسة لدموع الندم التى سكبها بطرس بعد الخيانة. وقد تمّ العثور حول الكنيسة على درج طويل من الحقبة الرومانية كان ينزل من الهيكل والحي العلوي من المدينة إلى وادي قدرون. وكان هذا الدرج موجودا أيام المسيح ولذلك يمكننا تأمل يسوع نازلا مع تلاميذه ليلة خميس الأسرار إلى بستان الجسمانية ليصلي.

حال خروجنا من الكنيسة نترك طريق القديس مرقص على طريق أرارات ونسلك طريق "حداد" الجديدة والتي تسير متوازية مع حارة اليهود التي هى مركز الحياة اليهودية منذ 800 عام. من هذين الطريقين تنساب الطريق الرومانية القديمة "الكاردو". والكاردو هو الطريق الرومانية ( 135 – 330 ) التى تقسم القدس قسمين حيث ينطلق من الشمال (باب العامود) إلى الجنوب (قرب باب صهيون الحالي). وتدلنا الفسيفساء التى عثر عليها فى مادبا أنّ هذه الطريق كانت قائمة فى القرن الرابع. و الان سوف ننزل من جبل صهيون الى الحى اليهودى.