بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر
هذان التلميذان أحدهما "كليوباس" وهو اسم مختصر من "كليوباتروس" أو "المجد الكامل"، أما الثاني فيرى الدارسين أنه لوقا الإنجيلي نفسه،
ويرى العلامة أوريجينوس والقديس كيرلس الكبير أن الشخص الثاني يدعى "سمعان" من السبعين رسولاً، خلاف سمعان بطرس وسمعان القانوي.
"وإذا اثنان منهم كانا مُنطلقين فى ذلك اليوم إلى قرية بعيدة عن أورشليم ستين غَلوة، اسمها عمواس .... وفيما هما يتكلمان ويتحاوران، اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشى معهما، ولكن أُمسكت أعينهما عن معرفته ... فلما اتكأ معهما، أخذ خبزاً وبارك وكسّر وناولهما، فأنفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما " (لوقا 24 : 13 – 35).
وكان هذا اللقاء في يوم أحد القيامة، وكان ذلك نحو الغروب حيث قارب النهار أن يميل وكأن التلميذين بقيا النهار كله تقريبًا في أورشليم يسمعان ويتحاوران مع بعضهما أو مع النسوة وبطرس ويوحنا الذين ذهبوا إلى القبر، كما كانا يسترجعان الذكريات عن أحاديث الرب بخصوص قيامته قبل آلامه، ومع هذا لم يحملا يقين الإيمان، إنما "كانا يتكلمان بعضهما مع بعض عن جميع هذه الحوادث"
"عمواس" اسم عبرى معناه "الينابيع الحارة"، وهى قرية صغيرة لم تُذكر إلا فى إنجيل لوقا، حين ظهر الرب يسوع فى نفس اليوم الذى قام فيه من الأموات لاثنين من تلاميذه كانا سائرين فى طريقهما إلى عمواس، التى كانت تبعد عن أورشليم ستين غلوة أى نحو 11 كليومتر تقريباً (الغلوة 184.36 متراً).
هي قرية "القبيبة" الحالية: وهى الاسم الحديث لعمواس القديمة، التى هدمت إلى الأساسات سنة 70م حتى أن اسمها قد زال. وهى على الطريق إلى يافا، والأطلال الأثرية التى كشفت فيها، تؤيد بكل يقين إنها عمواس المذكروة فى إنجيل لوقا، كما أن المسافة بينها وبين أورشليم تتفق مع ما جاء فى إنجيل لوقا (ستين غلوة).
وكانت فى العصر اليونانى (330 ق. م – 63 ق.م) مأهولة بالسكان، لأن قطع بعض النقود والقطع الرخامية وغيرها التى يرجع تاريخها إلى ذلك العصر أثبتت صحة هذا القول. أضف إلى ذلك بيت القديس كليوباس الذى لا تزال أساساته محفوظة ضمن جدران الكنيسة الحالية منذ ذلك التاريخ.
فى الجهة الجنوبية من الكنيسة الحالية بركة يبلغ طولها حوالى 36 متراً وعرضها 24 متراً وعمقها أربعة أمتار، وهى من مخلفات العصر الرومانى (63 ق.م – 330 م)، وتوجد كذلك فى الوادى الواقع غربى البلدة بقايا بيت رومانى، وعلى بعد ثلاث مئة متراً، وفى المكان المسمى "قرفد" وفوق الجبل الذى يُعرف بـ "الرأس" بقايا جدار رومانى متهدم ومقبرة وآبار ماء. كذلك ترجع إلى هذا العصر مخطوطات قديمة، وأقدم ترجمة للإنجيل المقدس تشيران إلى أن قرية عمواس تبعد عن أورشليم ستين غلوة.
يقول القديس أغسطينوس: [ليس غياب الله غيابًا. آمن به فيكون معك حتى وإن كنت لا تراه. فعندما اقترب الرب من الرسولين لم يكن لهما الإيمان... لم يصدقا أنه قام، أو أنه يمكن لأحد أن يقوم... لقد فقدا الإِيمان ولم يعد لهما رجاء... كانا يمشيان معه في الطريق. موتى مع الحيّ، أمواتًا مع الحياة. كانت "الحياة" تمشى معهما، غير أن قلبيهما لم يكونا ينبضان بالحياة.]
يقول القديس كيرلس الكبير: [قدم الرب للتلميذين موسى والأنبياء، وكشف لهما ما غمض عليهما من معانيهما. فالناموس هو تمهيد للطريق، وخدمة الأنبياء هي إعداد الناس لقبول الإيمان. لأن الله لم يرسل شيئًا بلا فائدة، بل لكل شيء فائدته في وقته. فالأنبياء هم الخدام الذين أرسلهم السيد أمامه لتكون نبواتهم تمهيدًا لمجيئه. وكأن هذه النبوات كنز ملكي مختوم، ينبغي أن يفتح في الوقت المناسب ما فيه من رموز.]
يقول القديس أغسطينوس: [إن كنت تريد الحياة تشبه بالرسولين حتى تتعرف على الرب. لقد ألحا عليه بالدعوة، وتظاهر هو كأنه ينوي مواصلة الطريق... غير أنهما أمسكا به وقالا له: امكث معنا لأنه نحو المساء] كما يقول: [امسك بالقريب إن أردت أن تتعرف على مخلصك، فقد أعادت الضيافة إلى التلميذين ما نزعه الشك وعدم الإيمان، وأعلن الرب ذاته عند كسر الخبز... فتعلم أين تطلب الرب فتحظى به على مائدة الطعام]
يقول القديس أغسطينوس: [متى أعلن الرب عن نفسه؟ عند كسر الخبز... لذلك عندما نكسر الخبز نتعرف على الرب، فهو لم يعلن نفسه إلا هنا على المائدة... لنا نحن الذين لم نستطع أن نراه في الجسد، ولكنه أعطانا جسده لنأكل. فإذا كنت تؤمن بهذا فتعال مهما كنت. وإذا كنت تثق فاطمئن عند كسر الخبز]
يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [تُفتح أعين الذين يتقبلون الخبز المقدس لكي يعرفوا المسيح، لأن جسد الرب يحمل فيه قوته العظيمة غير المنطوق بها.]
يعلل القديس كيرلس الكبير اختفاء السيد المسيح عنهما بقوله: [لقد اختفى الرب عنهما، لأن علاقة الرب بتلاميذه بعد القيامة لم تعد كما كانت عليه من قبل. فهم في حاجه إلى تغيير، وإلى حياة جديدة في المسيح... حتى يلتصق الجديد بالجديد وغير الفاسد بالفاسد. وهذا هو السبب الذي جعل الرب لا يسمح لمريم المجدلية أن تلمسه ـ كما ذكر (يو 20: 17) - إلى أن يصعد ثم يعود مرة أخرى]
أما قوله: "فقاما في تلك الساعة، ورجعا إلى أورشليم...". هذا هو غاية عمل الله فينا أن يهبنا قوة القيامة، إذ يقول: "قاما"، بهذه الحياة المقامة نرجع إلى أورشليم العليا التي تركناها، نرجع إلى مدينة الله الملك العظيم (مت 5: 35)، إلى "أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا" (غل 4: 26). بمعنى آخر يحوّل الله اتجاهنا، فبعد أن كنا متجهين إلى عمواس معطين ظهورنا لأورشليم، نعطي ظهورنا لعمواس متجهين بوجهنا وقلبنا وفكرنا نحو أورشليم.