مارجريت عازر
يُعدّ شم النسيم من أقدم الأعياد فى العالم، وهو عيد مصرى أصيل يعود تاريخه إلى أكثر من ٤٧٠٠ سنة، حين احتفل به المصريون القدماء كعيد لـ«بعث الحياة» مع بداية فصل الربيع. ومع مرور الزمن، اندمج هذا العيد فى السياق القبطى المسيحى، ليصبح جزءًا من الثقافة الدينية والاجتماعية للمصريين جميعًا، مسلمين ومسيحيين، محتفظًا برموزه العميقة التى تمصّرت وتحوّلت إلى معانٍ روحية.
استمرت رموز شم النسيم فى العبور من العصر الفرعونى إلى القبطى، ولكنها لم تبقَ رموزًا طبيعية أو موسمية فقط، بل اكتسبت أبعادًا روحية مسيحية، لتعبّر عن القيامة والتجدد والانبعاث بعد الموت، وهى جوهر العقيدة المسيحية.
فى الثقافة الفرعونية، الفسيخ كان يرمز إلى الانبعاث من الموت، فالسمك الميت الذى يُملّح ويُترك لفترة يعود «حيًّا» بطعمه النفّاذ وقوته الغذائية. وقد ورثت الثقافة المسيحية المصرية هذا المعنى ولكن بصبغة لاهوتى:
الفسيخ فى شم النسيم يأتى بعد عيد القيامة (الفصح المسيحى)، وهو بذلك يعكس المفارقة المسيحية الكبرى: من الموت إلى الحياة، أى قيامة المسيح من بين الأموات.
كما أن فكرة «تخليل» الشىء الفاسد وجعله نافعًا ترمز إلى التحول الروحى الذى تمنحه النعمة، أى تحويل الخطية (الموت الروحى) إلى حياة بالمسيح.
البيض كان رمزًا للخلق فى العقيدة الفرعونية، لكنه أصبح فى المسيحية رمزًا للقيامة. القشرة الصلبة ترمز للقبر، بينما خروج الكتكوت من داخله يعبّر عن خروج المسيح من القبر حيًا. وتلوين البيض بألوان زاهية يشير إلى فرح القيامة، ويجسّد الرجاء فى تجدد الحياة وانتصار النور على الظلام.
البصل استخدمه المصريون لطرد الأرواح الشريرة وتطهير الجسد. وقد حافظت الثقافة المسيحية على هذا الرمز، لكن بشكله الروحى، حيث يُنظر إلى البصل كرمز لـ«كشف الداخل» كما تكشف طبقاته، وهو دعوة للتوبة وتنقية القلب، فى سياق روحى يتزامن مع نهاية الصوم الكبير وبداية حياة جديدة فى القيامة.
الملانة (الحمص الأخضر) ترمز فى الفرعونية للخصوبة، والأولاد الجديدة بينما فى المسيحية تمثل حياة النعمة والبركة الجديدة. الخُضرة علامة على الاستمرار والنمو فى الإيمان، وهى ترجمة لفكرة أن القيامة لا تعنى فقط الخلاص، بل الحياة المتجددة فى الترمس نبات بسيط، لكنه غنى بالقيمة الغذائية، وقد أصبح رمزًا فى الثقافة المسيحية للتواضع والغذاء الروحى. كما يشير إلى الاكتفاء والفرح البسيط بالحياة التى يمنحها الله، لا سيما فى يوم القيامة الذى يُعد يوم تجدى العهد والفرح.
فى كل من الفرعونية والمسيحية، يحمل الخروج إلى الحدائق والهواء الطلق دلالة رمزية. عند الفراعنة هو طقس روحى للاتحاد بالطبيعة، وعند الأقباط هو إعلان للانفتاح على الحياة بعد القيامة، ومشاركة فى بهجة الخلق الجديد. الطبيعة هى مسرح القيامة، والشمس والهواء والزهور هى أدوات فرح.
عندما دخل الإسلام مصر، لم يُلغِ شم النسيم، بل تعامل معه بمنطق حضارى شديد الرُقى. فلم يجد المسلمون فى طقوس العيد ما يخالف الدين أو يناقض العقيدة، بل رأوا فيه عيدًا يُعبّر عن المحبة والبهجة والاجتماع الأسرى والاحتفال بالخليقة، وهى كلها قيَمٌ إسلامية رفيعة.
واستمر المصريون المسلمون فى ممارسة العادات ذاتها: أكل الفسيخ والبيض، الخروج إلى النيل، تزيين الأطعمة، فى تواصل ثقافى واجتماعى عميق مع إخوانهم الأقباط، فى مشهد فريد لا يتكرر إلا فى
شم النسيم عيد مصرى فريد، يحمل طبقات من الرموز والمعانى التى عبرت الأزمنة من فرعونية عميقة إلى مسيحية مُتمصّرة، مزجت بين الأرض والسماء، بين الجسد والروح، وبين الحياة اليومية والحياة الأبدية. هو عيد الانبعاث المصرى، حيث يُحتفل بالحياة لا كفكرة بيولوجية فقط، بل كقيمة مقدسة وميراث روحى يتجدد كل ربيع.
نقلا عن المصرى اليوم